القصّة القصيرة جدًا.. أمين درواشة أنموذجا (2)


صلاح بوزيّان  - ناقد وأديب - تونس 
                                            
العــجائـبيّ: 
أمّا العجائبيّ فهو في السّرد لينعتقَ به القاصّ من ضجر الواقع واضطراباته ويدخلَ جهات ومتون مختلفة ، قد تكون ممنوعة بحكم العادة والعُرف أو القوانين والنّواميس أو مهملة أو مجهولة ، فهو توظيف للخروج بالقارئ من قتامة الواقع الرّديء إلى واقع مغاير ومختلف يمكن أن يكونَ واقعيًا أو خياليًا ، والخياليّ يقترنُ بالعجائبيّ لينتفي الألم ، وتفتحَ كوّة للحلم ، إنّهُ الهروب الفنّي للإبداع ، كقصّة {سندريل} للكاتبة الفلسطينيّة نهيل مهنّا من مجموعة {حياة في متر مربّع} :{جلسَ يطهو الطّعامَ ، يكنسُ الأرضَ ، يشعلُ الحطبَ ، بينمَا ذهبَ الأبُ وابناهُ القبيحانٍ إلى حفل يحظَى بإعجاب الأميرة ، جاءهُ الجنيّ الطّيبّبُ ومعهُ بزّة جديدة }.                                
والعجائبي ينبني على روابط {الأنَا} و{الهو} ، المسكوتُ عنهُ في علاقة الجنسينٍ ، كقصّة {المشاغب} لأمين دراوشة من المجموعة نفسهَا ، {يدنو الموتُ منّي ، أشعرُ باقترابه ، يُحاولُ أن يسلبني كلّ ما أملكُ ، يبعثُ رجالهُ لتعقّبي ،وإلاّ ما معنَى القلقُ الذي يلاحقني كنفسي ؟ يا عذابَ نفسي اتركني ، أتوسّلُ إليكَ ،ارحلْ عنّي ، يُجيبني صداه في الفضاء : لولايْ لما عرفتَ معنَى السّعادة بعدَ العذاب .. ومن قال إنّ الحياة صراع لا ينتهي ؟ أنا أقول ذلكَ ، فهذه حكمة الخلقَ ...}                                                          
البعد الفلسفيّ في القصّة القصيرة جدًا :                                  
في هذه القصّة القصيرة جدًا {المشاغب} ـ يتحوّل العجائبيّ إلى فلسفيّ ، فيقــدُّ الإنسانُ {بالعجب/ التّعجّب} سّؤالاً يحققّ به وجودهُ ،أليسَ {أنَا أفكّر أنَا موجود ؟} ، وهنَا يلتحم الفنّي الإبداعيّ بالفلسفيّ ، ونرى القصّة القصيرة جدًا بروعة البناء ، تجوبُ باطن  شخوصهَا ، وتجوب الزّمان والمكان بحثًا عن المستجدّ ، هاشة بالكناية باشّة بالاستعارة ، وبنظم السّرد والوصف ، لتتشكّل صورة فلسفيّة للواقع وللأشياء ، يتجاور فيهَا الواقعيّ والحقيقيّ ، والماديّ الصِرف والإنسانيّ الخالد ، بين الماضي والحاضر والمنشود ،فتنفتح القصّة على تأمّل أو حلم وتنتهي بسؤال البدء الدّائم ، فلا تنتهي ، وبذلك يتحوّل الكاتب إلى فيلسوف مثلما يتحوّل الشاعرُ إلى نبيّ مجهول ، وآية فلسفة الكاتب السؤال في مونولوج داخليّ أو خارجيّ تجهر به الذات المتحرّر، ولكن هل تأثرت القصّة القصيرة جدًا بالرّواية الجديدة ؟               
نجحت الكتابة التّجريبيّة في الثورة على القوالب الكلاسيكيّة التي حدّت من حرية الكاتب ، وخلخلت البناء السّردي بل وانزاحت عنه ، لخلق بعدًا جماليًا فنّيًا جديدًا ، وكذلك فعلت القصّة القصيرة جدًا متأثرة بالرّواية ، إذ جرّبت تقنيات سردية نجدهَا في الرّواية الجديدة ، التي تعتبرُ السّردَ عملاً منفتحًا على أجناسٍ أدبيّة مختلفة . ولكن هل وظّفت القصّة القصيرة جدًا التّثغيرَ ؟  
                           
التـثـغير:
يبرز التّثغيرُ في توظيف الفراغ ، إمّا باستعمال أداة الوصل وعدم ذكر الاسم الموصول {ال...في...} وكذلك في توظيف البياض ، كأن يذكر القاصّ عنوانًا معرفًا ، بدون نصّ قصصي يُثبتُ البناء ، ويبرز في بناء الجمل وترتيبهَا واستعمال البياض الشاسع بينهَا ، ممّا يُشركُ القارئ في تخيّل بعض أحداث القصّة ،والتّواصل المتين مع أحداثهَا وشخوصهَا ، ومساءلة ما سكت عنهُ الكاتبُ ، وهذه تقنية ذكيّة الهدف منهَا ، بناء مسافة تقارب بين القارئ وبين سرعة أحداث النّص ، فيمتدّ عمر القصّة أكثر  وتستمرّ ديمومة الخيال والذاكرة ، في ديمومة الزّمن والحياة ، أنشودة للحياة ، ولكن أينَ حظّ الاستعارة ؟                                                                    
  الاستعارة :                                                                                                                     
تحضر الاستعارة في القصّة القصيرة جدًا باستخدام ألفاظ في غير ما وضعت لهُ ، لعلاقة المشابهة بين المعنَى المنقول عنهُ ، والمعنَى المُستعملٍ فيه ،مع قرينة صارفة عن استعمال المعنَى الأصلي . وبهذا المعنَى توظّف الاستعارة في تعدّد الصّور الإيحائيّة ، بجمالية الوصف والسّرد  ، ورقّة التّعابير ، ودلالة المعاني وشعريتهَا ـ تكشفُ مفارقات الحياة وخفاياها ، وتتحدّث عن عالم الإنسان في كلّ محطّات حياته ومواقفه ومشاغله وأحزانه وأحلامه وأفراحه ومآسيه .علاقة الإنسان بنفسه وبالوجود وبالآخرين ، وبذلك فالاستعارة{جنس سريّ مغلق ذو لغة لولبيّة تجعل من {القصة} الأخ الشقيق للشعر}   ، ونجد ذلك في قصّة{ الغيث}{لأمين دراوشة من نفس المجموعة }:{يعوي كالذّئب الجريح ، أولاد الوسخة لم يتركوا لنَا سوى اليباب} ، وفي قصّة {المهاجر} :{عجزتُ عن استيعاب سبب فراره من الجنّة إلى الوحل} ، وفي قصّة {الشجرة الموعودة}  :{ ملائكة بيض ، حملوني وطاروا بعيدًا ، تخطّينَا الأعراف بسهولة ويُسر ، وحطّينَا  على شجرة باسقة...هاجمهَا الشيطان حاول تحطيمهَا تكسيرهَا ، سحقهَا ، قطعَ أصابع قدميهَا دونَ تخدير}. وهنا تكمنُ الحرفيّة السّاحرة التي تجعلُ أدبية النّص القصصي خارجة من المسكوت عنهُ لا ممّا قيل .وبذلك تستند القصّة القصيرة جدًا على الاستعارة لأنّها تلوذ  بالشعر في بنيته ،وصوره و أساليبه ،  تنشد خلق واقع مفارق ومختلف وجديد .                                        
خاتمة :           
الكتابة القصصيّة متجدّدة لأنّها كتابة عن الإنسان وللإنسان ، والكاتب هو البحّار الذي يخوض غمار موج الكتابة كلّ يوم، مثلمَا يخوض غمار الحياة ، والقصّة القصيرة جدًا تنتظر مساهمات النّقاد بقراءاتهم ومقارباتهم ، وخاصّة التّجربة الفلسطينيّة الثريّة ، وقراءة نقدية كهذه ليست إلاّ تحيّة تقدير للكتّاب والكاتبات في فلسطين ، جزاء صبرهم وصمودهم ، وسعيهم إلى التّجديد في تجاربهم الإبداعية الأدبيّة  .                                                            
           
المصادر:

(1)    لتنظر رأي الصّادق قسّومة في كتابه {طرائق تحليل القصّة }ص: 163   
(2)    لتنظر{الشعر والشعرية} لمحمّد لطفي اليوسفي ، الدّار العربيّة للكتاب 1992 ص/78 .
(3)     القصّة القصيرة جدًا بين النّظريّة والتّطبيق ليوسف الحطيني، الأوائل سوريَا ط1 ، 2004 / 27
(4)    لتنظر {النّص والجسد والتّأويل لفريد الزّاهي ص/ 169

 

 

 

 

     

 

تعليق عبر الفيس بوك