عبدالله العليان
لا تزال قضية الهُوية الوطنية مدار نقاشات وحوارات للكثير من النخب الفكرية في منطقة الخليج على وجه الخصوص؛ كون هذه القضية تؤرق الكثيرين من المهتمين؛ سواء في قضية التعليم من حيث الهجرة للغة الانجليزية، أو كثرة العمالة في دول المنطقة منذ عدة عقود، ولا شك أن التعليم باللغة الأجنبية، يجلب الشق الثاني من المشكلة وهو ازدياد إقصاء الهوية.
وهذه الهجرة إلى اللغات الأجنبية لا تُحقِّق تعليماً جيداً عندما تتقدم اللغة الوطنية، فإذا ابتعد الطالب عن لغته، سواء كان هذا التعليم في سن مبكرة، أو في مراحل التعليم العالي، خصوصاً في مجال العلوم الاجتماعية أو الإنسانية. وقد طرح بعض من التربويين أن التدريس باللغة الأجنبية له ضرره على الهوية الوطنية، وما يجلبه من أزمات على شباب في المراحل الدراسية، عندما تُفرض عليهم اللغة الأجنبية في الدراسة، والتي بدورها تُسهم في فقد الهوية، والشعور بتفوق هذه اللغة على اللغة العربية، وهذا له انعكاساته الأخرى على الطالب، بعكس الذي يدرس اللغة الأجنبية خارج بلاده.
قد يكون الأمر مقبولاً في اختيار الدراسات العلمية البحتة، لكن أن يشتمل التعليم باللغات الأجنبية على العلوم الإنسانية وغيرها من المعارف، فهذا هو التهديد الفعلي للغة الوطنية وللهوية أيضا، خصوصاً وأن هذه اللغة -غير الوطنية- تستمر في كل مراحل الدراسة في بعض دولنا في منطقة الخليج، وتذكر إحدى الأكاديميات من دولة عربية خليجية، كيف أنها تشعر بالخجل عندما تُخاطب طلابها في إحدى الجامعات الوطنية باللغة الإنجليزية، والطلاب أنفسهم يشعرون بالامتعاض وعدم الارتياح أحياناً من تدريسهم بلغة غير لغتهم الأساسية، وتلك معضلة ليست هينة، ولها الكثير من المؤثرات النفسية وحتى من الناحية الاستيعابية. ثم من قال إن معرفة اللغة الأجنبية، لها شيء من المميزات عن اللغات الوطنية؟ فاليابانيون قفزوا تكنولوجيًّا بلغتهم الوطنية حتى في العلوم العلمية البحتة، والصينيون أيضا استفادوا من الغرب علميًّا من خلال لغتهم الوطنية، وإسرائيل التي عاش اليهود في الشتات لعدة قرون، أحيوا لغتهم العبرية (الميِّتة)، من جديد وصارت هذه اللغة، لغة العلم والاختراع في كل الجامعات، ومع أن غالبية الشعب الإسرائيلي عاش في الغرب، إلا أنهم رجعوا إلى لغتهم وتراثهم وأحيوه من جديد، والهدف هو الحفاظ على الهوية اليهودية وتحقق لهم لذلك.
واللغة -أي لغة- تعد من أساسيات الهوية الوطنية، فإذا توارت اللغة عن أمة من الأمم، وضعفت، تحلُّ بدلها اللغات الأخرى المنافسة، والشعوب التي حاربت الغزاة، جعلت هويتها الوطنية، تسير جنبا إلى جنب مع حركتها في محاربة الاستعمار والحفاظ على الثقافة، وما فعله الزعيم الهندي المهاتما غاندي عندما كان يسافر للغرب، ويفاوضهم كان يصطحب معه شاة التي يشرب منها، مع احتفاظه بملابسه الوطنية الأكثر تواضعاً كما عرف عنه، وهذا بلا شك له مَغزى، وهو التمسك بالهوية الوطنية، في ظل الهجمة الاستعمارية عسكريًّا وسياسيًّا، وثقافيًّا، وتبعه الزعيم الهندي نهرو أيضا في الكثير من تحركاته في الحفاظ على الوطنية خلال رئاسته للهند.
والغرب نفسه -في بعض بلدانه- شديد الحرص على التمسك بالهوية الوطنية، واللغة في المقام الأول، مع ما يجمعهما من روابط الدين والجغرافيا والاتحاد...إلخ، لكنهم في قضية اللغة لا مساومة عليها، ونتذكر القصة الشهيرة المعروفة التي حدثت في بروكسل، في قمة الاتحاد الأوروبي عام 2004، عندما عرض الفرنسي"إغيرنستسيليرغ" رئيس المصرف المركزي الأوروبي تقريراً اقتصاديًّا؛ تحدَّث خلاله (باللغة الإنجليزية)، على اعتبار أن الغالبية من دول الاتحاد تعتمد اللغة الانجليزية، فبعد أول كلمة قاطعه الرئيس الفرنسي آنذاك جاك شيراك، قائلا:ً "لماذا بحق السماء تتكلم الإنجليزية؟، وبعدها خرج الرئيس الفرنسي من قاعة المؤتمر محتجاً على ما اعتبره إهانة لهويته الوطنية الفرنسية، وتبعه وزير خارجيته ووزير المالية، وقد أثمر هذا الاحتجاج بأن استجاب المتحدث، والتزم بالفرنسية في كلمته على غير العادة، هذه هي الغيرة على اللغة الوطنية، وفرنسا لها مواقف كثيرة من قضية ما يسميه الفرنسيون بـ"الاختراق الأمريكي" للغة الفرنسية، ولها مواقف كثيرة لمواجهة اللغة الإنجليزية من خلال قوانين وأنظمة للحفاظ على الهوية الفرنسية من الغزو اللغة الأمريكي الثقافي.
والشيء الغريب أننا كأمة نواجه اختراقاً كبيراً من الثقافات الغربية ومؤثراتها المختلفة، خصوصاً اللغة؛ كوننا الطرف الأضعف في المعادلة التكنولوجية، لكننا نسير إلى هذا الاختراق سيراً، بدلا من أن يسعى الآخرون إلينا، وصرنا نحن نسعى إلى اتباعهم وتقليدهم! وهذا يذكرني كما يُقال بأن بعض الحيوانات، تأتي طواعية عندما تجد الأسد أمامها فجأة، أو نحن نتبع ما قاله العلامة ابن خلدون في قولته الشهيرة: "إن المغلوب مولع باقتداء الغالب"، ونحن فعلاً في هذا المسار، ونتمنى ألا يتحقق هذا الأمر، لكن لماذا أمم أخرى ضعيفة، بل وأقل ضعفاً، قاومت الاختراق واستطاعت أن تحافظ على ذاتها من الذوبان مما يحدثه الاختراق الفكري، واستعادة تحافظ على الهوية الفكرية والثقافية، ونحن في دول المنطقة، للأسف نكاد نقع فيما وقعت فيه دول في الشمال الإفريقي، حيث استطاع الاستعمار في القرن الماضي أن يفرض لغته فرضاً، وأن يحارب اللغات الأصلية لتلك الشعوب لمحوها من الجذور، وحقق نجاحاً مهما، فلا تزال آثاره باقية حتى الآن، فقبل سنوات كنت في أحد المؤتمرات في بلد عربي من شمال إفريقيا، فلم أجد صحيفة عربية في هذا الفندق لعدة أيام، وكلها باللغة الأجنبية، واستغربت من هذا الأمر، فكيف يتم إقصاء العربية، بعد الجهود الكبيرة للتعريب لذلك البلد العربي المهم!
لذلك؛ نأمل مراجعة قضية اللغة العربية في مدارس التعليم العام وفي الكليات والجامعات، إلا ما تقتضيه الضرورة العلمية البحتة، وعندما نحتاج إلى لغات أجنبية، علينا أن نبتعث للحاجة لهذه اللغة، كما تفعل بعض الدول الغربية التي تبعث بعض التخصصات للغات الأخرى، خصوصا في الجانب السياسي، وعموماً الجانب البحثي والدبلوماسي، وعلينا أن نُقلل من تعميم اللغة الأجنبية على أغلب التخصصات النظرية؛ لأن في هذا تعزيزًا للهوية الوطنية، وإتاحة الفرص للشباب من خلال فرض اللغة العربية في الشركات والمؤسسات، بدلا من أن تكون اللغة الأجنبية هي التي تُفرض في الشركات والمؤسسات.