تراجيديا الوجود وارهاصات كريم عاشور


جمال قيسي – ناقد وأديب من العراق


للنص مغاليق عدة،،،وطرق وعرة،،لا يُفضي ،،عن محمولاته ،الا بعد ان تستكشف مساحته التمثلية ،،وإعادة  تركيب ابعاده،،وقد تفلح في ذلك ،،وأحياناً كثيرة ،،تذهب مجهوداتك الى غير وجهاتها ،،ومع ان النص الذي ينتمي الى ما بعد الحداثة لا تحكمه قواعد معيارية،،بحكم عملية النفي والاقصاء الذاتوي ،،بيد انه حتى يتعدى مساحة كاتب النص الى مساحة المتلقي،،لابد من ان تحكمه شروط وجودية،،ربما لاتنتظم،،عمومياً،،ولكن وجودها ضروري،،،وأول هذه الشروط ،،لابد ان يفضي النص ،،الى قضية بالإمكان تداولها بين الكاتب والملتقي ،،بعملية التناص،،،ورغم ان مساحات التمثل تكون واسعة الإرجاء ،،لذا يتوجب الاستغراق في الدلالات ،،وخاصة المنظومة الرمزية،،،لكي تتكشف لك المدلولات،،،او ان تفصح عن بعض مراميها،،ورغم ان المدلولات،،( وهي المعاني والصور التي يراها المتلقي،،من قراءته للنص،،وبالضرورة تختلف من متلق الى اخر ) ،،هي فعالية منفلتة في الشعر لما بعد الحداثي،،بقدر انفلاتها لدى منطقة المدلولات،،وحتى لا يكتنف الغموض ،،عن ما أسلفنا ،،سنبسط الامر قدر الاستطاعة مع المقايسة او التطبيق على النص الخطير لكريم عاشور المعنون ( قصائد فوتوغرافية ) ،،ولا حيلة لنا في الامر،،،اذ ان كل النظريات النقدية لما بعد الحداثة،،تحكمها مثل هذه المصطلحات والمفاهيم ،،،
ان الحداثة التي بلورها عصر الانوار هي نتاج سيسوثقافي ،،لزلزال الثورة الفرنسية،،التي اصبح العالم بموجبها  غير العالم ،،فكان النتاج الفلسفي لهيجل  خاصة في قضية حياة الروح ،،والفينومينولوجيا ،،،ومقالة  عمانؤيل كانت الشهيرة ( مالتنوير ) ،،شكلت الخطوط العريضة ،،لمشروع الحداثة ،،( طبعاً هنا نتحدث عن الحداثة ومابعدها،،كفكر وثقافة،،وليس فترة تاريخية ،،لانه من بداية القرن العشرين وحتى قيام الحرب العالمية الثانية يصنف بالتاريخ الحديث،،،ومن الحرب العالمية الثانية وحتى وقتنا الحالي يصنف بالتاريخ المعاصر ) ،،في الوقت ذاته كان هناك ممسوس متطرف شكاك،،اسمه فريدريش نيتشه،،فيلسوف ألماني غاضب،،،لم تثنه الكشوفات الجديدة،،عن تأسيس عملية تقويض كبرى للحداثة،،،وهي في أوج قوتها وزخمها البكر،،،ومنطلق فكرته في غاية البساطة والخطورة اذ يعتبر ان اللغة هي نوع  من سلطة الاستبداد يمارسها صاحب الخطاب من اجل الهيمنة على المتلقي،، والسلطة هنا لاتنحصر  بفرد،،بل  في جماعة  والمثقف  هو اداة   لهذه السلطة،،وهنا اللغة ليست المفردات وإنما المفاهيم والرسائل التي يحملها الخطاب ،،لذلك كان نهجه ،،على ان عملية تحررنا من هذه السلطة ان نلجأ الى نحت مفاهيمنا الخاصة،،ولا نتقبل ما يملى علينا،،تطور الامر بشكل لافت  خاصة بعد إنجازات السويسري  دي سوسير اللغوية التي افضت مع جهود الشكلانين الروس الى البنيوية،،ومن ثم مابعد البنيوية في التفكيك،،وما فكرة دريدا و رولان بارت لقاموس الدلالة  الا توسيع لفكرة نيتشه ،،لتضرب عالم الادب حتى الأعماق ،،ومن ثم الشرخ الكبير الذي احدثه بيكاسو في الفن،،،لقد أخذ العالم وجهة جديدة ،،ليس نافية للمرحلة السابقة فحسب ومتنصلة عن كل ما مضى،،بل وموغلة في الفردانية ،،وفي اللامعنى ،،واللاجدوى،،،بمسمى العبث،،والتكعيبية والتجريد،،والسوريالية،،الى اخره من موجات التوسانامي،،،النيتشوي ،،،لقد أفلتت المعايير،،،ليس هناك نموذج يمكننا التأسيس عليه،،او الانطلاق منه،،لقد ضاعت منا حتى نقطة ارخميدس ( يذهب ديكارت الى انه نجعل عقلنا صفحة بيضاء نسطر عليها فكرتنا ،،ولكن قبل هذا يجب ان نفترض نقطة معينة ننطلق منها ،،ونعتبرها مرجعيتنا في عملية التأسيس،،وسماها نقطة ارخميدس ) ،، وقطع. منا خيط أرْيان ،،لنتدبر  امرنا في المتاهة  ،،وهذا العصر المابعد حداثوي ،،المتساوق مع فعالية العقل الغربي في نتاجه الثقافي،،انتهى في شهر آب لعام ١٩٩٥ ،،مع عصر ثورة المعلومات،،،ليفتتح عهداً جديداً بالمرة،،ومن نتاجه النانو في الادب والومضة ،،وربما قصيدة النثر،،الى اخر المسميات،،،وليس لنا ان نحكم عليه ،،والا اتُهمنا بالرجعية والتخلف،،،ومن هذا المنطلق  اركز على قضية اساسها ثابت في وعيّ،،الا وهي فكرة الاغتراب،،والتي انتبه لها وشخصها ماركس ،،بأنها النتيجة المحايثة لتطور الرأسمالية،،،مقابل فكرة الانتاج لديه ،،،وقد أساء الشيوعيين تفسيرها،،وحطموا جوهر الفكر الماركسي ،،،إذاً الإخوة النقاد كانوا محقين في تشخيصهم للنتاج الظاهري،،فيما كنت اذهب انا الى الجانب الجوهري،،،والى الميكانزيمات المولدة للصيرورة  الهوامية في النتاج الأدبي ،،اتمنى انني لم أولد الملل للقارئ،،،ولكن لا مناص من هذه التوطئة المبتسرة،،،قبل الشروع في رحلتنا مع كريم عاشور،،،وسيرى القارئ ،الأسباب التي دعتنا لمثل هذ الامر،،ولكن هناك امر اخير لابد من الإشارة اليه ،،لقد اسلفت ان النتاج الفكري والثقافي الغربي متساوق مع  الحراك الاجتماعي التاريخي له،،،في حين ان حراكنا التاريخي كعرب،،مختلف تماماً وان كل تجارب الحداثة ومابعدها ،،تبقى غريبة عن الفكر العربي الاسلامي،،،ليس لخلل فيه او فيها،،،وإنما تكمن الاشكالية ،،في قضية جوهرية ،،وعتبة لا يمكن تخطيها،،الا وهي اللغة،،فاللغة العربية متكاملة ،،عند مزاوليها،،ومن غير الممكن ان يطرأ تغيير او تحديث فيها،،لارتباطها بالمقدس ( القرأن ) ،،حيث لايمكن الفصل بينهما،،ومن هنا يمكن تأشير التطورات الحاصلة في كل اللغات العالمية بما يتوائم مع كل عصر،،في حين العرب يبحثون عن توائم اي عصر مع المقدس،،وقد لا يحصل وهو امر كثير الحدوث،،لذلك تظهر الإشكاليات الكبرى،،،مع مواكبة التغيرات الحاصلة،،،وهذا مبحث لا مجال بتداوله ،،هنا ،،،
نعود الى قصيدة كريم عاشور،،،،وفي رأي المتواضع وربما محدودية اطلاعي،،،اعتبرها افضل نتاج ثقافي يبوح عن الإشكاليات التي أشرنا اليها،،،،وسوف نلقي نظرة عليها على شكل فقرات،،،،

١- يعتبر زينون ( فيلسوف إغريقي سبق أرسطو بمئة عام ) ،،ابو الفيزياء الحديثة ( النانو والصغائر ) ،،عندما اعتبر حركة الجسم عبارة عن سكونات متلاحقة،،ففي كل وضعية في حركته يحكمه زمان ومكان ،،اي ان حر
١- يعتبر زينون ( فيلسوف إغريقي سبق أرسطو بمئة عام ) ،،ابو الفيزياء الحديثة ( النانو والصغائر ) ،،عندما اعتبر حركة الجسم عبارة عن سكونات متلاحقة،،ففي كل وضعية في حركته يحكمه زمان ومكان ،،اي ان حركة الجسم اشبه باللقطات الثابتة،،لكل مكان وزمان في حيّز الحركة ،،وهو الامر الذي اوحى الى ظهور السينما من خلال جمع اللقطات الثابتة الجزيئيّة ،،وعند تحريكها تبدو ،،انها مستمرة ،،في حين رفض هذه الفكرة جملة وتفصيلاً أرسطو ،،من خلال اعتبار الاستمرارية هي مؤشر الحركة،،ولاتزال كبرى النظريات الرياضية قائمة على وجهة نظر أرسطو ،،في حين لم تفلح مع فيزياء الصغائر،،،يلاحظ هنا ان كل لقطة لها زمنها الخاص السكوني،،،وهو لُب المحور الزمني للبنيوية  وما بعدها،،،ومدى انعكاس هذا التصور على الادب المعاصر برمته،،،،منها تطبيقات قصيدة النثر والنانو والومضة،،،،ولكن لنرجع الى صديقنا كريم عاشور وكيفية تطبيقه على قصيدته ،،

الصورة افضل مني
فهي زمن واقف على ورقة
اما انا
فورقة بلا زمن

في المقطع أعلاه ،،يحدد عاشور ،،ظرفي الزمان والمكان،،،وسكونية تامة،،على طريقة زينون،،،ومطابقة مع كل النتاج الحداثي وما بعده،،وحتى العصر المعلوماتي،،،هنا منتهى التكنيك،،،ولست ابالغ،،اذ من يمعن النظر يستشف ما نذهب اليه،،،،هذا في جانب،،اما الاخر،،فهو يعلن ان الوقائع ،،ظاهراتية ،،هي الحقيقة الثابتة،،مع اهدار لاي شيء اخر عداها،،،هو هنا مثال حي لتطبيق فلسفة هوسرل وهابرماس،،،وإعلان ،،عن الفجيعة التي تنبأ بها ماركس،،،وسنعود لاحقاً لنكمل هذا الامر مع الصورة الشاملة،،،،

٢- يطبق كريم عاشور نظرية زينون وافتراضاتها الثلاث،،،بشكل محكم،،،ففي تكنيك غريب ،،تتكون القصيدة من مقاطع ،،اشبه بلقطات الفلم السينمائي ،،لموت الانسان المعاصر بسبب تموضعه في القبر الذي صنعته الحضارة،،جراء إصابته بالمرض العضال ( الاغتراب )

٣- يتعامل كريم عاشور بتجربة استفتاحية،،،من خلال جعل اللحظة الذروة واللقطة النهائية في وسط القصيدة،،بحيث تفضي كل لقطات القصيدة الى هذه البؤرة ،،،المكثفة ،،،

لا اذكر منه سوى انه
دسني في إطار
ثم علقني على الحائط
ومضى

هل هناك ابلغ من هذا الكلام،،انه سؤال الانطولوجيا ( الوجود)  المهم،،،بل الأهم ،،،،
يخبرنا ،،عاشور ان كان هناك اله فقد خلقه وعلقه على الحائط،،وقد اهمله العمر كله،،،صورة لايميزها هذا الاله بين الحشود،،،او انه قد تناساه،،كواقعة ساكنة،،لاقيمة لها،،،او ان هذا الاله العابث مشغول بأمر ،،اخر،،هذا المقطع بالإجمال ،،يناظر إلقاء حجر ببركة ساكنة ،،انه المركز والحلقات المتكونة ،،هي المقاطع الاخرى ،،،

في الصورة الشاملة للقصيدة،،،بمفردات قليلة تمكن كريم عاشور،،من طرح  مشاهد شتى ،،هذه المفردات ،،الصورة،،الزمان،،الإطار ،،،وكأنها تشكيل احتمالية  عددية،،من ثلاث ارقام،،،استطاع الشاعر ان يغطي سؤال الوجود،،بطرحه على الوقائع،،،وكذلك الملفت للانتباه استخدامه الصمت البلاغي في بعض المقاطع بمهارة عالية،،ولا اعرف هل ان صديقي،،مطلع بعمق لكل ما ذكرنا،،ام انه كتب القصيدة بعفوية وهو ما أرجحه ،،ولا اقصد هنا الصدفة الا ان حسه الشاعري المرهف تمكن من استيعاب معطيات العصر،،وطروحاته،،وهنا نقصد معنى الشاعر،،،بكامل الوصف،،،الميتافيزيقي الرائي،،وهنا سبب تعلقي به ،،،فقط ملاحظة ،،لو انه استخدم إطار فضي بدلاً من الخشبي ،،لاكتملت الصورة العبثية لحياة الانسان فالكل الى زوال،،ميسور الحال الذي في الإطار الذهبي،،والمتوسط ،في الفضي ،،والمعدم في النحاسي،،،ربما للشاعر رؤية اخرى،،،،

جمال قيسي / بغداد

‎(قصائد فوتوغرافية)
‎كريم عاشور

-----------------------------

‎الصورة أفضل مني
‎فهي زمن واقف على ورقة
‎أما أنا
‎فورقة بلا زمن
_________

‎أحيانا نضحك
‎ما الفائدة
‎الموتى أيضا يضحكون في الصور
_______

‎كلّ شيء في انكسار
‎قلبي ينكسر
‎خاطري ينكسر
‎صورتي تتكسر
......
......
‎يبدو أنني من زجاج
________

‎كلما يُقطع التيار
‎تظهر صورتي على الشاشة

__________
‎لا أذكر منه سوى انه
‎دسّني في اطار
‎ثم علّقني على الحائط
‎ومضى
_______

‎الموت كاميرا عاطلة
‎تحرقنا كما الصور
_____

‎لا مرآة في البيت
‎لاماء في النهر
‎لا زجاج في الشبابيك
...
...
‎أين اختفت صورتي !؟
______

‎الصورة تصعد الى الوراء
‎ونحن نهبط باتجاه الموت
______

‎إطار من ذهب
‎إطار من خشب
‎إطار من صفيح
.....
.....
‎ما ذنب الصور !؟
______

‎دائماً نمضي
‎وتبقى الصور

 

تعليق عبر الفيس بوك