فصول مملكة الشرّ.. "فان غوغ"


وديع أزمانو - المغرب


(مقام أول)
/
هو فينسنت فان غوغ ، وهو فينسنت الثاني ، ربما كان موتهُ قبلَ ولادتهِ بعامٍ ، وربما كانت ولادتهُ بعدَ موتهِ من عامٍ . يخبرنا الرُّواةُ أنَّ الفتى عاش فقيرا لا يملكُ ثمن قنينةِ نبيذٍ رديئةٍ ، مجهولَ الفنِّ ذائعَ الصِّيتِ في الجنونِ، فجرَّنا فقرُنا إليهِ ، انتسبنا إلى جنونهِ نغرفُ منهُ عطشاً للهذيانِ و نبصرُ في خيباتهِ أفقا لهذا السَّراب .
يخبرنا الرواي أيضا والعهدةُ على مزاجنا المجرورِ إلى غرائبيةِ الضنائنِ؛ أن الفتى لم يبع سوى لوحةٍ واحدةٍ طوالَ حياتهِ ولم يمِل للرَّسمِ مُبكٍّرا فانتسبَ إلى طريقِ الرَّبِّ يُخفِّفُ عن فقراء مثلهُ لوعةَ بردٍ وصراخَ بطنٍ ويشحذُ بالتراتيلِ جوعَ الرُّوحِ لمُطلقِ الجمالِ ، وفي هذا كان انجرافنا إليهِ في ثمالةِ العشقِ وانكسارِ التجربة .
/
كثيرةٌ نوباتُ اليأسِ حين تزورُ قلبا امتلأَ بكلِّ أسبابِ الحُزنِ / هنا اكتوى فتانا بالمرأةِ شرِبَ من حياضِ أزمتها وتركَ أصابعَ اليدِ الخالقةِ تشقى في نارِ الخلقِ . التقى بأصدقاءَ كثُرٍ شربَ معهم من كأسٍ واحدةٍ ، آوهم في ليلِ الخليقةِ وحملَ طعناتهم في الظَّهرِ كوردةٍ تعهَّدها بجليلِ الدَّمع .
تُظهرُ لنا "الخطواتُ الأولى" ؛ ذراعيهُ مفتوحتينِ كمسيحٍ على القِماشِ لابنةٍ لن تكونَ لهُ ،لامرأة طارت من قفصهِ الصدريِّ ، لرفاقٍ استقرُّوا كالطلقاتِ الناريةِ في مكنونِ الجسدِ /
للرُّوحِ يُلهبها الغيابُ و يتقصَّفُ زعفرانها في ثلجِ الفقدِ /
هنا على "أعتابِ الخلود" ، ألبسُ كُهولةَ الضَّاجِّ بالأسرارِ ، أنوحُ كذئبٍ عجوزٍ في فضاءِ الجراحِ
وأطرقُ بما يليقُ من رعبٍ بابَ الأبدِ
هنا ، أُفجِّرُ الفرشاةَ أو أتركُ عنفي يسيلُ في ارتطامِ اللَّونِ كأنَّ كلَّ حطامِ الدنيا أنايَ ، كأنَّ كلَّ خرابِ العالمينَ وحشٌ يزهرُ في دمايَ ،
كأنّهُ ليسَ ثمةَ سوايَ !
/
"بارقة"
ضرباتُ فُرشاتي على القماشِ حادَّةٌ
كحقلٍ من سكاكين
/
"لامعة"
لم أر غير الإله
ولم أرسم وجها
سواه
/
ما من شيءٍ أبصرتهُ / ما من شيءٍ رسمتهُ /
ما من شيءٍ خبِرتهُ وآتيتهُ / ما من لونٍ عشقتهُ /
إلاَّ وكان الحبُّ مولايَ
والحرِّيةُ شفيعي
/
من يطوفُ على الآخر ؛ زهرةُ عبّادِ الشمسِ
أمِ الشَّمسُ
من يُصلٍّي في سجَّادةِ اللَّونِ
الماءُ أمِ الترابُ
أم عشبا توضَّأَ في وحشيتهِ
وآخى بالأسودِ المقطوعِ
زهرةَ أغصانٍ تشهقُ في الماء
قل لي : أيها الأصفرُ المخبوءُ في نسغِ برتقالةٍ
من سينقذنا من الموتِ
قل لي : أيها الأصفرُ المائلُ إلى خُضْرةِ قمرٍ حاسدٍ
من سيضيءُ سهرةَ الليلةِ
ويسحبُ عن قميصِ العذراءِ دمَ خيانةٍ سابقة
أيها الأصفرُ ؛ يا لون الشَّمسِ و الحقدِ
و السَّنابل
هذهِ رأسي / سنبلةٌ ناضجةٌ
فاقطفها ،
بمنجلِ القمر !
/
وأنتَ ، أيها الأخضرُ
كن قيامتي ؛ و تبخثرَ الطبيعةِ في رداءِ الأنوثةِ
ولتكن ،
رطبا منعشا
كأنفاسِ العشيقة
/
لكَ وحدكَ أيها الأزرقُ ، أسجدُ
تلطمني بموجةٍ / فأخِرُّ دلالا
أشربكَ ، فأصفو
أنظرُ إليكَ ، فتطفو ،
كلُّ دموعِ العالمِ من مُقلتيَّ
زرقاءَ كانتِ اليمامةُ
و عُزلتي زرقاءُ
و المحيطُ أزرقُ
وأعضائي في حفلةِ التعذيبِ
زرقاءُ
والحياةُ أجملُ / زرقاءُ
فتباركَ جِلدُكَ في الأعالي
أيهذا الأزرقُ !
/
برتقالةً مشطورةَ البطنِ
كنتَ ، أيَّها المغيبُ
مُؤتلقا بمذبحةِ الشَّمسِ عندَ السَّفحِ
و مزهوا بالأجراسِ مدلاَّةً
في أعناقِ التُّيوس
وبرتقاليٌّ ،
هذا المزيج !
/
جبَّارٌ أيها الأسودُ
يمثُلُ الموتُ بين يديكَ
تنزعُ عن الزَّهرةِ بذرتها
وترفعُ الكائناتِ في جناحِ الدَّفنِ /
لترتفعَ كإلهٍ أو شبحٍ ،
يُسدلُ على الوجودِ
ثيابَ الحِداد
/
أبيضُ قلبي
والشمعةُ في ليلي ، بيضاءُ
رُكبةُ خليلتي ، بيضاءُ
نهدُها ، أبيضُ
سُرَّتُها ، بيضاءُ
فستانُها، أبيضُ
ووجوهُ أهلِ السَّعادةِ ، بيضاءُ
و الجنَّةُ ، بيضاءُ
جنَّنتني أيها الأبيضُ أو جُنِنتُ بكَ /
كلانا، مسفوحٌ
في جلاءِ القصيدة
/
بُنيٌّ لونُ الخُبزِ / القناعةُ بُنٍّيَّةُ الرِّضا
وطينةُ اللَّهِ من تُرابٍ استوت .
خصيتايَ بُنِّيّتان
وهذهِ اللِّحيةُ بُنيَّة /
مُغبرّا أسيرُ في لونِ الأرضِ تجري عليَّ المعاركُ وأستضيءُ ، أولدُ في خصوبةِ اللاَّجدوى ، تكتنفني الأزقَّةُ المشبوهةُ و طاولاتُ الخشبِ بنيَّةً في الحاناتِ الرَّخيصةِ، و لا أصغي لغيرِ لونِ الحبِّ ، طافحةٌ أيَّامي بمطلقِ الجنونِ والأذنُ الوحيدةُ تفخرُ بموسيقى تفتِنُ .
طفلا كنتُ أهرقُ النَّشوةَ في صدورِ عذارى ، و أجفلُ من قلوبهنَّ المدثَّرةِ بصخرٍ ، كهلا صرتُ بعدما أبصرتني الرؤى وانسالَ الغيابُ .
تأمَّلتُ حتى فَنِيتُ ، ولهتُ وانغمستُ في المشاهدةِ ، فلم يشهدني أحدُ
وها أنذا أمضي ،
يدايَ خلفي ،
وصدري طليقٌ
يسبحُ فيهِ الأبدُ !
................

 

تعليق عبر الفيس بوك