وجهًا لوجه

غالية آل سعيد وعبد الرزاق الربيعي (4)

مازلنا نواصل الحوار مع الدكتورة غالية آل سعيد، وفي هذه الحلقة نتحدث عن المهمشين في أعمالها الروائية خاصة أن لديها قناعة بأن واقع، وحياة المهمشين، ربما بسبب أنّ أغلبيتهم الساحقة في مجتمعات العالم ككل. وهم أكثر من غيرهم يولدون يوميا، ويتكاثرون، تنتجهم الأنظمة السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية الفاشلة محليا، وعالميا.
س؟؟) تركّز أعمالك الروائية على الناس المهمّشين، وفيها تتناولين حياتهم، وتناقشين همومهم، لماذا التركيز على المهمشين دون سواهم من فئات المجتمع؟
ج:) أتفق معك، نستطيع القول: إن شخصيات رواياتي جلّها من المهمشين، والملفوظين من قبل صفوف المجتمعات، وصفوتها. لهذا السبب، تجد شخصياتي تعيش بعشوائية على أطراف المجتمعات التي لفظتها. إن واقع هؤلاء الناس يعكس بوضوح اختلال السياسات في المجتمعات التي ينتمون لها؛ نحن نتحدث عن بؤساء، إن كانوا عربا، أو غربيين، يحدث ذلك على الرغم مما تملكه بعض هذه المجتمعات من موارد اقتصادية وفيرة، وهنا مربط الفرس، وسر التناقض.
ويكفيك التهافت الحاصل حاليا على الهجرة الى الغرب على سفن الغرق، تلك السفن تقف شاهدا على اضطراب حياة هؤلاء المهمشين المنهكين. خذ عندك الشخصيتين (خلف) وصديقه (معوض) في رواية (سأم الانتظار)، هما يجسدان هذه الهجرة ومعهما المتعلم الناجح الطبيب (حامد حمدان)، وفي رواية(أيام في الجنة)، وجدنا (غسان) في لندن، الا انه هو الآخر مهاجر وجد ضالته في اللجوء، هربا من وقائع حلت عليه في بلده. وفي المهجر، ربما نتيجة عدم قدرته على الاندماج في المجتمع، كما حال عدد كبير من أمثاله، لفظه المجتمع، وتركه يعاني البطالة، والمرض والإدمان. ويمكن حدوث ذلك في شتى صنوف المجتمعات، يفشل الفرد، فيهاجر، وفي المهجر يعاني، بسبب عدم القدرة على الاندماج، أو مشاكل شخصية واجتماعية، الفرد هنا كمن يستجير من الرمضاء بالنار. والدكتور (نديم نصرة) الطبيب المحترم ربما لو تواجدت في مجتمعه العوامل المتطلبة لممارسة مهنته لما نزح الى الغرب، ولكنّه هو الآخر لسبب ما لجأ الى بريطانيا، وظل حنينه، وشوقه الى بلاده، وإلى العالم الشرقي ملتهبا لم يروه حتى عشقه لـ(مليحة) العربية، زوجة (نافع).
لا أعرف تماما لماذا للشخصيات المهمشة الحضور الأبرز في رواياتي، ولكن أعود مرة أخرى، وأقول، إن صح القول، في اي مجال من مجالات الآداب غالبا أنت لا تختار الشخصيات التي يدور تفكيرك حولها، فهي تحلّ ضيفة على روايتك، الشخصيات تختارك، وربما حتى الأمكنة هي التي تختارك. تقابلك الشخصيات من دون ترتيب مسبق، بعضها تقابلك في تعاملك اليومي، وتكون من مختلف دروب الحياة، والطبقات، ربما تلقاها من بين المسافرين معك في القطار، والطائرة، أو المنتظرين في عيادات الأطباء، والواقفين في طابور شراء الخبز، وتذاكر السينما، أو الجالسين من حولك في المطاعم، وفي صالونات الحلاقة، أو بين الباعة المتجولين. شخصيات الراوية هم كثر، وتجدهم في أماكن كثيرة، ومختلفة، بعضها ممن لا تعرفهم أبدا، أو قد تعرفهم من الوهلة الأولى. وجوه هؤلاء تنطبع في ذاكرتك، ومن ثم تتسلّل بحذر حتى تجد طريقها إلى أعمالك الفنية، فهي تتمدد على سطور وصفحات رواياتك، أو قصائدك، أو قماش لوحاتك الفنية، فلا تجد مناصا من الرضوخ والانحناء لإرادتها، وتنفيذ مطالبها.
وبذلك، الكاتب يتحول إلى أداة تمكّن هذه الشخصيات، من أيّ مستوى اجتماعي، أو ثقافي كانت، الخروج من المحيط المحصور الذي وجدت فيه، الى عالم أوسع وأرحب، أي عالم الرواية. الشخصيات تختارنا، وليس العكس، والمهمشون هكذا فعلوا معي، حتى صاروا واقعا في أعمالي الروائية كلها.
وكثيرا ما تمرّ من أمامي شخصيات، أعرفها، أم لا أعرفها، فأتطلع إليها، وأمعن النظر في وجوهها، في محاولة لسبر أغوارها، وقراءة همومها. أكاد أنطق بما يدور داخل رأس الشخصية من أسرار، وخبايا، أشعر كأنني أقول لها ادركي همومك، ومتاعبك ومعاناتك، أو أعرف الذي يقف خلف فرحك، وحبك للحياة. ومن هنا تبدأ كتابة الرواية، من واقع متخيل في قالب فني دخلت فيه الشخصيات كما تختار هي، ذلك ينطبق على الشخصيات المهمّشة، وغيرها من الشخصيات.
وكثيرون يعتقدون إنّ على الكتابة الروائية أن تدور حول قضايا سياسية ساخنة، تصف القمع، والضغوط السياسية، تحكي عن اجرام الشرطة، واستبداد المسؤولين وفسادهم، تتطرق لحياة مثقف يتصدى للتعنت السياسي، دون الدخول في الحياة اليومية التي يعيشها المهمّش. يكمن الخوف من مضيعة الوقت في قراءة عمل روائي لا تدور أحداثه حول شخصية متعلمة، من الوزن الثقيل، ولها مكانة، ونفوذ وسلطة. يقولون: ما الذي سيقوله المهمّش ليجذبك، ولا ثقافة لديه، ولا قدرات فكرية، يدور محور حياته حول معيشته اليومية، القوت، والمسكن، والعلاج، وكلها روتينية، ومملة، أما البطل المثقف ستشتبك معه فكريا، فأنت، وهو في ذات المستوى الفكري، وربما، والاجتماعي. هنا يأتون بالادعاء التالي: لا معنى، ولا جدوى للعمل الروائي، ولا ثقل له إن لم يمتثل لمعايير الثقافة، والفكر، والسياسة، والمجالات التي يحارب البطل المثقف من أجل تغييرها.
الرد واضح: هناك قضايا كثيرة تمسّ، وتلمس حياة الفرد العادي، الفرد المهمش اجتماعيا، وسياسيا، لديه هموم كثيرة كالبطالة، والفقر، ومرارة الحاجة، والمرض، والحرمان من العمل، والسكن، وغيرها من المشاكل، والضغوط، والقضايا، والأمور الشخصية، والاجتماعية الشائكة. رواية المهمش لا تتحدث عن السياسية المطلوبة في العمل الروائي من منظور المتلقي المثقف، إلا أنك ستجد السياسة مدفونة في المشاكل العادية، واليومية التي تمرّ بها الشخصيات المهمشة. شخصياتنا لا تحارب من أجل العيش بالفكر، ولا بالقلم، فقرها حرمها من فرص التعليم، ولكنها تحارب بالواقع الذي تعيشه حينما يضعه الروائي في مشاهد كثيرة ومختلفة كحارة الصفيح، أو مذلة الإدمان التي يعاني منها المهمش. تلك هي السياسة، لحما، وشحما، وليس شرطا عليها الظهور في ثوب الاستبداد العسكري، الفساد السياسي والاجرام، أو بطولات المثقف الذي يقرأ كتبا كثيرة، أو يكتب مقالات ملتهبة عن القضايا الانسانية، أو يفكر بعمق في العمل الأدبي، ونتائجه.
وأزيدك من الشعر بيتا، إن الروايات التي تصدّرت الأولوية، ونجحت عالميا أغلبها لم تتركب أحداثها على شخصية مثقفة تقرأ، وتفكر في العالم، ومشاكل الشعوب، أو شخصية واقفة في ساحة تتحدث عن القمع، أو تتحدى بصدر عار طلقات رصاص العسكر. الروايات العالمية الناجحة معظمها تبدأ، وتدور حول حياة شخصيات عادية، وشخصيات مهمشة. تتعلق الرواية بحياة ناس يعيشون في بيوت الصفيح، والبلدات المغمورة، والحارات الصغيرة المكتظة بالبشر، وبترع تحوم حولها البعوض، أو على قارعة الطرق، والشوارع في قاع المدن. نوع معيشة هؤلاء الناس تمثل صورا واضحة لقسوة الحياة، وواقع المجتمعات التي عزلتهم وأخرجتهم من السجل الاجتماعي، وحبست قدراتهم على المشاركة السياسية، فيما يهمهم من القضايا التي تتحكم في حياتهم، ومصائرهم.

س؟؟) هل من أمثلة على تلك النماذج؟
ج:) روايات تشارلز ديكنز، وماركيز، ومحفوظ، ودستوفسكي، وإحسان عبد القدوس، وغيرهم من الكتاب المعروفين محليا، وعالميا، تبدأ بسرد حول حياة أناس عاديين، ومهمشين، وعاطلين عن العمل، أو الذين ألقوا خلف قضبان السجون. تلك روايات ليست عن بطل شاهر السلاح في وجه سياسي، أو عسكري، أو عن المثقف عميق التفكير، ذاك سيأتي فيما بعد، وبطريقة مبطنة، وفنية تظهر الفساد السياسي، والعسكري، وتحطيم القيم.
ثم أن تركيزي على واقع، وحياة المهمشين، ربما بسبب أنّ أغلبيتهم الساحقة في مجتمعات العالم ككل. هم أكثر من غيرهم يولدون يوميا، ويتكاثرون، تنتجهم الأنظمة السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية الفاشلة محليا، وعالميا. مثل هذه الأنظمة المختلة تخلق مهمشين، ومحتاجين أكثر مما تخلق الصفوة المرفهة من الناس، هؤلاء أعدادهم أقل بكثير من المهمّشين، وتجدهم يعيشون في عزلة عن عالم الفقراء، والمهمّشين. إذن ليس غريبا أن يكون في رواياتي للمهمّشين حضورا أكبر عن غيرهم من الفئات، فهم الأغلبية في مجتمعات العالم، وأراهم في كل الأزمنة، وكل الأمكنة. الأعداد الكبيرة من بؤساء العالم يجب أن تجد لها متنفسا، ومسرحا تلعب عليه دورها، ومن عليه تنشر قضاياها، وآلامها، وهمومها، وربما وجدت في سطور الرواية أفضل مكان لذلك. الرواية للمهمّش أشبه بسرير الطبيب النفسي، بينما المقتدر يلجأ الى عيادات الاطباء النفسيين بسبب قدرته على دفع التكلفة الباهظة لجلسات العلاج؛ المهمش لا يجد غير حبر الروائي يغسل فيه همومه، فكيف نحرمه من قطرات حبر لا تسمن، ولا تغني من جوع.
في رواية (  جنون اليأس) نلتقي بشخصية نافع، وبالحياة البائسة التي عاشها في لندن. الرواية هنا ليست سردا مباشرا عن قضية سياسية ساخنة، ولكن بؤسه دلالة واضحة على خطأ سياسي فادح وقع في مجتمعين: المجتمع الذي نزح منه والمجتمع الذي وصل إليه، والا ما كان سيقبع في تلك الدوامة من الفقر، والحاجة. (نافع) لا يعيش في المريخ، أو في فضاء خارجي، ولا صلة له بمحيطة، هو يعيش في مجتمع ذي أحكام، وقوانين صارمة، ولا تعير حاجة المحتاج أهمية، ذلك سبب بؤسه، وبؤس مليحة.

س؟؟) هذه الإشارات تتكرر في رواية ( سأم الانتظار )؟
ج: ) نعم، فالسياسة وفشل الأنظمة الاقتصادية تظهر بوضوح في حياة (خلف) وصديقه (معوض). ضيق المعيشة في بلد (خلف)، وعدم استطاعته التحايل على النظام، وعلى الأفراد لانتشال ما يكفيه لعيشه، وإعانة أسرته والاهتمام، والعناية بأخيه المعوق، اضطره كي يبحث عن مخرج أوصله الى بريطانيا. في فصول الرواية ذاتها تجد (بلندة) البريطانية تعيش في مستنقع من الطمع، واشتباكات مع نفسها، وأهل العجزة، غضّت الحكومة النظر عن مخالفاتها للقانون. (بلندة) كمستثمرة في ميادين الصحة العامة لها دور مهم، لكن ما يهمّ الدولة يتمثل في الاستفادة من جني الضرائب التي تستلمها من تجارتها، حتى ولو سببت التجارة المشاكل للمرضى الذين تحت رعايتها. هنا السياسة تنصاع لسلطان المال، وفي ذلك تدمير لصحة الانسان، وتفكيك لصلات المجتمعات.

س؟؟) تريدين أن تقولي إنك لست بعيدة عن الحياة التي يعيشها أبطال رواياتك؟
ج: ) واقعا، حياتي بعيدة عن حياة من أكتب عنهم، إلا أني لست بعيدة سمعا، ونظرا، وتفكيرا، عما يدور حولي من هموم، وقضايا الناس. تجدني ألتقط هواجس الناس في كل مكان أحلّ فيه، وفي الحقيقة في داخلي ألهج بلسان الشكر للذين قربوني من عالمهم، وأنا البعيدة عنهم. ومن خلال حرية الكتابة الروائية قمت بتركيب، وإعادة صياغة سيرة حياتهم، وتحدثت عن همومهم، وطموحاتهم، وأحلامهم، وعن مخاوفهم. وهنا تقع المفارقة المفيدة للأدب، والمفجرة للعمل الروائي، كاتب غريب لا تربطه صلة مباشرة بشخصياته، وفي الوقت نفسه يجتهد كي يصل لحياة تلك الشخصيات ويجسدها للقارئ، يوجد خطان للسير، ولكنهما يلتقيان في مفترق الطرق، ويتلاحمان، ويتشاركان الأفراح، والأتراح.

س؟؟) يعتقد البعض أنّ الكتابة ينبغي أن تدور حول قضايا وجوديّة كبرى، دون الدخول في الحياة اليومية، كيف تنظرين لهذا الطرح؟
ج: ) هناك قضايا كثيرة تمس، وتلمس حياة الفرد العادي، الفرد المهمش اجتماعيا وسياسيا، لديه هموم كثيرة كالبطالة، والفقر، ومرارة الحاجة، والمرض، والحرمان من العمل، والسكن، وغيرها من المشاكل، والضغوط، والقضايا، والأمور الشخصية والاجتماعية الشائكة. رواية المهمش لا تتحدث عن السياسة المطلوبة في العمل الروائي من منظور المتلقي المثقف، الا إنك ستجد السياسة مدفونة في المشاكل العادية، واليومية التي تمر بها الشخصيات المهمشة. شخصياتنا لا تحارب من أجل العيش بالفكر، ولا بالقلم، فقرها حرمها من فرص التعليم، ولكنها تحارب بالواقع الذي تعيشه حينما يضعه الروائي في مشاهد كثيرة، ومختلفة كحارة الصفيح، أو مذلة الادمان التي يعاني منها المهمش. تلك هي السياسة، لحما وشحما، وليس شرطا عليها الظهور في ثوب الاستبداد العسكري، الفساد السياسي والإجرام، أو بطولات المثقف الذي يقرأ كتبا كثيرة، أو يكتب مقالات ملتهبة عن القضايا الإنسانية، أو يفكر بعمق في العمل الادبي ونتائجه.
س؟؟) وربما بسبب أغلبيتهم الساحقة في مجتمعات العالم ككل؟
ج: ) نعم، فهم أكثر من غيرهم يولدون يوميا، ويتكاثرون، تنتجهم الأنظمة السياسية والاقتصادية، والاجتماعية الفاشلة محليا، وعالميا. مثل هذه الأنظمة المختلة تخلق مهمشين، ومحتاجين أكثر مما تخلق الصفوة المرفهة من الناس، هؤلاء أعدادهم أقل بكثير من المهمشين، وتجدهم يعيشون في عزلة عن عالم الفقراء، والمهمشين. إذا ليس غريبا أن يكون في رواياتي للمهمشين حضور أكبر عن غيرهم من الفئات، فهم الأغلبية في مجتمعات العالم، وأراهم في كل الأزمنة، والأمكنة. الأعداد الكبيرة من بؤساء العالم يجب أن تجد لها متنفسا، ومسرحا تلعب عليه أدوارها، ومن عليه تنشر قضاياها، وآلامها، وهمومها، وربما وجدت في سطور الرواية أفضل مكان لذلك. الرواية للمهمش أشبه بسرير الطبيب النفسي، بينما المقتدر يلجأ إلى عيادات الأطباء النفسيين بسبب قدرته على دفع التكلفة الباهظة لجلسات العلاج؛ المهمش لا يجد غير حبر الروائي يغسل فيه همومه، فكيف نحرمه من قطرات حبر لا تسمن ولا تغني من جوع؟

 

تعليق عبر الفيس بوك