يـُـدبِّـر الأمــــر


أحمد زايد – مصر


عدة سنوات للخلف.. كان على سفر بصعيد مصر يريد الوصول إلى إحدى القرى لواجب عزاء فضل الطريق ليجد نفسه بطريق ترابيّ ضائق بين مجرى مائى وحقول شاسعة, وليس هناك متسع للدوران والعودة مرة أخرى ...
المكان هادىء جدا وحدثته نفسه بالتوقف لسؤال أحد المارة ؟ إلى أين ومتى ينتهى هذا
الطريق؟ وهل القرية التى يقصدها قريبة من هنا؟
خمس دقائق مرت دون أن يصادف أحدًا فالتفت جانبا فوجد زاوية صغيرة للصلاة بجانب المجرى المائى مشيدة بالطوب اللبن وسقفها من جريد النخيل فقرر التوقف قليلا بجوارها ليستجمع أفكاره إذ ربما يقابل أحدهم يقدم له إجابات عن تلك الأسئله التى تدور بعقله...
مد يده وتناول هاتفه وسجائره وزجاجة مياه صغيرة وخرج من السياره ثم ألقى بجسده المتعب على الأرض وركن ظهره إلى جدار الزاوية الذى أوشك على الانهيار !
تناول شربة ماء وأشعل لفافة تبغ وقرر الاتصال بصديقه فلا حيلة له بعد, تلك الفكره التى راودته منذ البداية منذ شعر أنه ضل طريقه ورفضها مراعاة لظروف صديقه الذى توفى الله والده صباح هذا اليوم فلم يرد إزعاجه فهو ذاهب إليه لمواساته وآخر شىء يريده أن يحمِّل صديقه المشغول بإجراءات دفن والده همًّا آخر فوق همومه وماذا يقول له فهو لا يعرف أين هو على أية حال ...
هاتفه يدور بين أصابعه وينفث دخان لفافته بضيق ويحدث نفسه يالها من سخافة ربما هو قائم الآن على غسل أبيه فكيف أهاتفه لأقول له إننى تائه بين مجرى مائى ضيق وحقول شاسعة !
ما باليد حيله عليه إجراء الاتصال ثم نظر إلى هاتفه بفتور وبدأ فى البحث فى قائمة الأسماء حتى توقف أمام الاسم المراد, ليس هناك شبكة إرسال لإجراء المحادثة ! كيف نسى هذا وهو منذ نصف ساعة حاول أن يستعين بخدمة تحديد المواقع للخروج من هذه المتاهة ولم يكن هناك تغطية للاتصال بالشبكه العنكبوتيه!
وضع الهاتف بجانبه بضيق ونظر على امتداد البصر ليرى أحدهم قادم يسحب خلفه بعض الماشية, إنها فتاه صغيرة مرّت أمامه ورفضت بخوف وتجاهل أن تتحدث معه وبدأت تسرع بخطواتها وتحدث ماشيتها بأصوات غير مفهومة وكأن بينها وبينهم اتفاق فأسرعت الماشية خلفها ممتثلة لأوامرها ...
بعد برهة وهو يهم بالانصراف والمضي بهذا الطريق حتى نهايته التى لا يعرفها لكن لابد لكل طريق من نهاية, أليس كذلك؟ محدثا نفسه بصوت مسموع ...
جال بنظره حول المكان مستوحشا ومودعا فرأى من بعيد على امتداد البصر أحدهم قادما من بين الحقول فانتظر حتى يتبين له ماهية القادم.. تتبع الرجل بنظره حتى اقترب, شيخ كبير ذو وجه طيب فتفائل بطلة الشيخ المريحة...
توجه الشيخ إليه على الفور من تلقاء نفسه وألقى عليه السلام مستغربا وجوده هنا فمن النادر أن يرى سيارات على هذا الطريق لضيقه ووعرته فشرح الأمر للشيخ وشعر بارتياح عميق لمعرفة الشيخ لتلك القرية التى يبحث عنها منذ الصباح ...
ابتسم الشيخ بعد أن لاحظ القلق على وجهه قائلا... لا تقلق فكل ضيق له مخرج طالما سلمت النوايا يا ولدى..
فقط أعطنى بعض الوقت للصلاة وسوف أصحبك حتى بداية الطريق المؤدي لتلك القرية وكل ما عليك هو أن تمضى فى هذا الطريق لنصف ساعة دون الانعطاف يمينا أو يسارا ...
أجبته ممتنا: لا داعى لإرهاقك فيمكنك وصف الطريق وإرشادى من هنا وإن شاء الله سوف أصل إلى وجهتى فكما قلت هناك دائما مخرج طالما سلمت النوايا وأنا ذاهب فى خير إن شاء الله !
اسمع يا بنى الطريق وعر ومعقد من هنا وأنت غريب فدعنى أساعدك فهذه أسهل طريقه لمساعدتك.. وإن كان هناك أسهل من هذا لاقترحته عليك فى المقام الأول ...

ما اسمك؟
أحمد
توضأ يا بني " مشيرا إلى المجرى المائي" وصلِ معنا وبعدها نتوكل على الله
رفع الشيخ الآذان بصوت ضعيف ولكنه ندي ولاح من بعيد شخص آخر يأتى من بين الحقول لينضم لنا...
فرغنا من الصلاة وجلسنا ثلاثتنا نختمها مسبحين نحمد الله ونكبره وندعوه وزدنا عليها تكبيرات العيد فاليوم هو ثانى أيام عيد الأضحى المبارك ...
بعدها سألت الشيخ ألا تخشى أن تنهار تلك الزاوية فالمياه تنحرها من الأسفل كما ترى ويمكن أن تنهار فى اية لحظه؟
نعم .. أرى هذا .. فهى تحتاج إلى قاعده أسمنتيه وجدران حجرية فكما ترى هى تكاد تكون فوق المجرى المائى.. وفكرت أن أغير مكانها إلى الجانب الآخر من الطريق ولكن هى قائمه هكذا منذ كنت طفلا ولا أشعر بالارتياح تجاه فكرة تبديل مكانها، وهناك سبب آخر وإن تصاغر أمام السبب الأول يمنعنى من تبديل مكانها وهو إننى لا أريد إحراج مالكي الأرض المطلة على الطريق بطلب استقطاع بعض الأمتار فهذا أمر لا يُطلب وإنما يُعطى عن طيب خاطر وهم يرون الوضع بوضوح ولو أرادوا لقاموا على الأمر، ثم أضاف الشيخ وما أملكه أنا وأولادى من أرض للأسف هو وسط الحقول ولا ناصية له على الطريق...
لا تشغل بالك سوف نصلحها إن شاء الله,، الله سوف يصلحها ويقيمها ببركة سجدات لم تنقطع بها منذ عشرات السنين من طيبين على فطرة الخالق !
قام الشيخ من مجلسه وأوصى ثالثنا عبد الله إن كان لا يمانع فى إحضار حمار الشيخ إلى المنزل عند عودته بعد أن شرح له هدف ذهابه مع الغريب .. بأدب جم أومأ عبد الله قليل الكلام برأسه ..

توجه الشيخ معي إلى السياره وقبل يجلس على المقعد التفت إلى عبد الله وقال: يا عبد الله لا داعي أن تأتى بالحمار إلى منزلي فمنزلك فى أول " النجع " ولا أريد أن أشق عليك فقط أحضره إلى النجع واتركه وهو سوف يأتى إلى المنزل ومازحه قائلا :
هذا الحمار الطيب فطن يا عبد الله فهو الأذكى بين أبنائى وربما أحفادي أيضا ...
جلس الشيخ بجانبي ونظر لي وقال سوف نمضي فى هذا الطريق عدة دقائق حتى "غيطان الهوارية"وهناك يمكنك الدوران فمحمد الهواري يحرث أرضه الآن وهى خالية ولكن عليك أن تنتبه جيدا حتى لا تعلق إطارات السيارة ..
نجحنا أن نعود أدراجنا فى الاتجاه المعاكس فشعرت بالارتياح وبدأنا نتجاذب أطراف الحديث سويا وسألته عن اسم المكان ولماذا هذا الهدوء الذى يلف الحقول وأين يسكن والمسافة بين بيته وحقله وشعرت تجاهه بالإشفاق والامتنان لكونه طاعنا فى السن ولطول المسافة التى سوف يقطعها إلى منزله بعد أن يرشدني إلى الطريق !
فكأن الشيخ قرأ أفكاري وأجاب دون سؤال إنه ذاهب لزيارة ابنه الأكبر وهو على بعد خطوات حيث يوصلني إلى طريق القرية المنشودة ..
كان الشيخ يراقب الطرق الضيقة الوعرة باهتمام شديد ويحفظ كل منعطف وانحناء أو حتى حفره بالطريق عن ظهر قلب وينبهني قبلها بعدة أمتار حتى وصلنا إلى مفترق الطرق وعندها نظر إليّ، وقال: هنا يا بنى .. سوف أنزل هنا يا بني أما أنت فسوف تأخذ الطريق الذي على يمينك وتستمر فى السير به دون الالتفات إلى أي طرق جانبية...
أعلم أنك فى عجلة من أمرك وإلا ما كنت تركتك تذهب دون تناول الغذاء معي، ثم أردف استمر دون توقف وسوف تجد القرية فى آخر الطريق وهناك تسأل وسوف يرشدك أهل القرية إلى منزل صديقك وعظَّم الله أجرك ورحمة الله على الرجل ...
نزل أحمد مسرعا من السيارة وفتح الباب للشيخ وشكره بكل امتنان على لطفه وعذب حديثه فضلا عن تركه شئونه والتطوع لمساعدته وشدّ على يده بحرارة وذهب تلاحقه دعوات الشيخ بالتيسير والستر !
مرت شهور قليلة منذ تلك الواقعة وها أنا ذا  أمارس حياتي اليومية المعتادة وفي أحد الأيام هاتفني صديق الصبا الذى يعيش بإحدى الدول الأروبيه ليخبرني أنه قادم فى إجازه إلى القاهرة لمرض والده وإن شعر أن والده بحال أفضل سوف يأتى ليُمضي معي بعض الوقت ...
حضر مصطفى لزيارتي وكعادة أصدقاء الصبا لا يكفون عن الحديث حتى فى صغائر الأمور بكل تفاصيلها .
أثناء الحديث جاء ذكر خالد زميل وصديقي بالعمل وقد جمعتنا الظروف بمصطفى عدة مرات وارتاح له فسأل عن أحواله ورغبته فى رؤيته إن أمكن ..
أبلغته بموت والده منذ شهور قليلة وحدثته عن تفاصيل رحلتي إلى قرية خالد لمواساته وتسامرنا وتذكّرنا خالد بكل خير وترحمنا على الآباء جميعا
وقصصت عليه ما تعرضت له فى رحلتي من مواقف كانت حينها تبدو صعبة والآن هى مادة ساخره أُسامر بها الأصدقاء بأسلوب شيق حماسي لا يخلو من الفكاهة...
وكيف أنقذني هذا الشيخ الطيب وكيف كانت صلاته ودعواته: أن يؤخر الله انهيارزاوية الصلاة لما بعد الصلاة !
غادر مصطفى بعد يومين ممتعين قضاهما برفقتي على وعد بتكرار الزيارة من حين لآخر كلما سنحت الفرصة ..
عدة اسابيع مرت منذ لقائنا حتى ظُهر هذا اليوم.. رن هاتفي وعلى الناحية الأخرى من الهاتف هذا الذى يتحدث بميوعة وبلغه أجنبيه لا أفهمها فرجوته التحدث بالعربية أو الانجليزيه لأفهم ما يقول!
عَرفني المتحدث عن نفسه بأنه صاحب الشركة التى يعمل بها مصطفى وطلب مقابلتي يحمل رسالة لي مصطفى.. وصاحب تلك الشركة الأروبية كان بعطلة احتفالا بعيد زواجه برفقة زوجه بتلك المدينة الصغيرة .. للأسف هما " ذكران " !
كرهت قضاء الوقت برفقتهما وطلبت منه باقتضاب محترم أن يفصح عن رسالة مصطفى, لي فناولني مظروفا بريديا أخذته وألقيت التحية ومضيت
لم أصبر حتى أصل إلى المنزل لشعوري بالقلق ففتحت المظروف فور وصوله لسيارتي,، الأمر غريب فلم يذكر مصطفى شيئا بالرغم من تواصله الأسبوعي معي ...!
كان بداخل المظروف مبلغ من المال وورقة مطوية فتناولت الورقة بشغف وفتحها باضطراب ...
كانت الورقة بها رساله قصيرة ..
ـــــــــــ

صديقى وأخى العزيز أحمد

أتذكر هذا الجد الذى ساعدك عندما فقدت الطريق فى رحلة ذهابك إلى جنازة والد خالد؟ !
أرجو إيصال هذا المبلغ إليه ...
ربما تضطر إلى تبديل النقود بالعملة المحلية أولا ولكن لا أريدك أن تعرف قيمة المبلغ وفقط أعطي المظروف للشيخ ولا تحكي له ولا لغيره شيئا ..
سوف أكون شاكرا إن استطعت تلبيىة رغبتى بطريقة ما..
وإن اعترض الجد فخاطبه بكلماته, وكلمته الشهيرة لك: (إن الله سوف يصلحها ويقيمها على أفضل حال) وإن هذا ما أرسله الله لك حتى تعمل عنده على إقامتها فالأمر ليس لك لتقبله أو ترفضه.. وان استمر فى الاعتراض ... اترك المظروف وانصرف!

أحمد ....
اشكرك للقيام بهذه الخدمة لصديق يحبك فأرجوك لا تحدثنى فى هذا الأمر بعد قراءة رسالتي التى بين يديك الآن ولا نأتي على ذكره مرة أخرى فى أحاديثنا الأسبوعيه فهذا أمر لم يحدث !
مصطفى
-------
تنويه:
** المقصد هنا ليس ما فعله الطيب الجميل مصطفى ولا الشيخ الرائع، ولكن تتبعوا الأحداث جيدا ... لتعرفوا أن الأشياء التى تبدو بسيطة وتمر علينا دون انتباه ... الله يفعلها بترتيب وإعجاز ومن فرط عبقريتها تبدو بسيطة فتمر علينا دون تدبر...
سبحانه يستخدم الجميع بلا استثناء البر والفاجر ومن يتوسط هذا وذاك كلٌّ يقوم بدوره باختياره الحر ولكن بمعرفة إلهية سابقة على الاختيار !
سواء تنبهنا إلى ذلك أم غفلنا عنه ولكنه يحدث فى حياتنا كل لحظة وفى الأغلب ننظر له كأمور حياتية اعتياديه من فرط البساطة والإعجاز وحسن التدبير ...

 

تعليق عبر الفيس بوك