مناجم الذهب (الحلقة الرابعة عشرة)

الرقم واحد

عائشة البلوشية

لولعه الشديد بالعلم وآخر ما توصل إليه الباحثون والعلماء، كان يتجول قبل عدة سنوات في أحد المعارض المليئة بآخر التقنيات والاختراعات العلمية في عالم الاتصالات والحواسيب، فاقتنى جهازا جديدا للكشف عن المعادن الثمينة والأحجار النفيسة، وقع هذا الجهاز في نفسه ﻷنّه يجمع بين عدة أجهزة في جهاز واحد، ودون تردد ابتاع واحدا، ولاهتمامه بإضفاء لمساته الخاصة، بعد تجربته له قام بربطه بعدة سواتل مستخدما تقنيات الاتصالات الحديثة، وذلك حتى يتحقق من إحداثيات كل موقع، وﻷنني كنت أشاركه بعضا من أحلامي، أصبح يسر إليّ ويريني بعضا من مقتنياته الثمينة، ولن أنسى عندما كنت أتصفح على شاشة حاسوبه اللوحي تلك الزمردات الخضراء الثمينة التي كان يجلبها من محافظة ظفار إبّان قضائه إجازاته في فصل الخريف هناك، متجولا في سهل جربيب، أو نحو عين جرزيز أو حمران أو أتوم، ومعها بعض الكهرمانات الفائقة الجمال التي يلتقطها في جبال حاسك، أمّا تلك الصخور العملاقة ذات التشكيلات العجيبة في محافظة الوسطى، فهي منجم هائل من الصخور الناطقة بالتأريخ الطبيعي السحيق الضارب في عمق الزمان، حيث تتناثر النيازك المتساقطة في الرمال الممتدة بامتداد الفيافي والقفار في تلك المحافظة، لتشكل جميعها ثروة جيولوجية عملاقة، أمّا تلك التلافيف الحانية لوادي غول في محافظة الداخلية، وهي تتكشف عن نخل باسقات مظلات ما حولهن في ارتفاعات مختلفة، ووجود للإنسان العماني في بقاع يكاد المستحيل أن يبرأ إلى تلك الارتفاعات من السكن فيها، وتلك القلعة السامقة منذ مئات السنين على قمة جبل تطل على قرية "حدش" من جهة و على قرية "وكان" من جهة أخرى، أو وسط مجرى واد هناك في ولاية "الرستاق"، وكم هي كثيرة تلك الروايات التي سمعتها وشنفت آذاني منصتة لمفرداتها عندما يبدأ الأهل في التحدث عن "ام السميم"، تلك البقعة الغامضة في صحراء الربع الخالي، وكم أعملت خيالي لأتصور تلك الحكايا وأستمتع بالسيناريوهات التي أخرجها في عقلي الطفولي، لم أكن أتصور بأنني سأراها منجما رائعا يطفو على سطح الأرض، وكأنه امتداد سرمدي يعانق الأفق على شاشة ذلك الحاسوب اللوحي، كل ذلك وغيره يصبح ذا طابع خاص عند التقاطه بالبعد الثالث.

في إحدى الحلقات التي كانت أحداثها تدور في ولاية مطرح، أرسل لي أحد الإخوة الذين يتمتعون بذائقة خاصة نحو الجمال العماني واصفا إياها بـ(مطرح مندوس العروس)، فقلت له هي كذلك بل إنّها أكثر من ذلك، وستجد ردي في الحلقة الأخيرة، فكل ولاية عمانية بل كل قرية هي منجم من مناجم الذهب، ومطرح عبارة عن عدة مناجم في مساحة واحدة، كل منجم لمعدن نفيس مختلف أو نوع من الحجارة الكريمة، وهذا هو حال كل بقعة على أرض هذا الوطن، وهذا ما رآه والدي - رزقني الله حسن بره- بعين الجمال التي ينظر من خلالها لكل زاوية، حيث اقتنى كاميرا من نوع "بولورايد" من سوق مطرح في أواخر ستينيات القرن الماضي، ثم تدرج في أنواع الكاميرات العديدة، لكنها لم ترضِ ذلك الولع النامي في داخله، إلى أن تفاجأ برؤية البعد الثالث عندما بدأ بالتقاط الصور بالكاميرا الخاصة في الطائرة بدون طيار والمعروفة باللغة الإنجليزية بالـ(Drone)، هذه التقنية التي يستخدمها الكثيرون للمراقبة أو في الاستخدامات العسكرية، لكن ما رأيته من إعمال جميل و تطويع أروع لها، جعلتني شخصيا أرى بانبهار أن في كل شبر من بلادي منجما من ذهب.

أحب القمة ورقم واحد في كل شيء، لذلك كان يصر على البحث عن الأحدث والأجود في كل بحر ركب أمواجه، ففي العراقي كان أول من جلب السينما ومولد الكهرباء هناك في نهاية الستينيات وبدايات السبعينيات من القرن الماضي، وكان الجميع وخصوصا الأطفال يتسابقون بعد صلاة العشاء للذهاب والاستمتاع برؤية تلك الحيوانات العجيبة التي يشاهدونها في الأفلام الوثائقية التي كان يعرضها لهم على جدار المنزل، وكم ضحكت من قلبي عندما حكى لي أحدهم مرة أنّه في طفولته سمع عن أمر السينما تلك، لذلك قرر الذهاب وفي أول ليلة من العرض صدم بتلك المساحة البيضاء من القماش ورأى ذلك الحيوان الغريب ذا الخرطوم الطويل والجسم الضخم، فتعرف على الفيل لأول مرة في حياته، ويكمل حكايته بأنّه ولشدة دهشته احتاج أن يذهب في الليلة الثانية ليشاهد ذات الفيلم ويتعرّف على الزرافة، أمّا في الليلة الثالثة فعاد مولولا ألمًا من منتصف الطريق بسبب لدغة عقرب، ويكمل لي بأنّه ورغم خوفه في الليلة الرابعة إلا أنّه حرص أن ينتعل صندل والده ويذهب لمشاهدة العرض، وكان الجميع يحرص على الذهاب لمشاهدة أفلام "شارلي شابلن" الصامتة؛ كما أنّه كان أول من جلب آلة ومضخة استخراج الماء من البئر (المكينة)، فقد أحب تلك الفرحة التي يجدها في عيون من يرى شيئا حديثا يقدم خدماته للناس ويخفف من عنائهم، عندما جلب والده أول ماكينة لحياكة الملابس، ثمّ أول ماكينة للحياكة تعمل بالقدم، وأول آلة لطحن البن (الكيرخانة)، فأصر هو أن يربط كل منجز في حياته العملية بالرقم واحد؛ وعشق الاتصالات التي تعلم منها أنّ كل شيء في عملها قائم على الرقمين (صفر وواحد)، وهما أيضا الشرطة (بفتح الشين) والنقطة في "المورس"، فهذين الرقمين هما أساس كل كلمة في الأجهزة الرقمية، مثلما كانت الشرطة والنقطة أساس تكوين كل كلمة في جهاز المورس، فبنى فلسفة تعامله مع جمال ما حوله عليهما، وأنّ الواحد هو ذاته الشرطة في المورس، وأنّ الصفر المرسوم على هيئة دائرة في الغرب، هو ذاته الصفر المرسوم كتابة على هيئة نقطة عند العرب، لذلك ارتبطت المعلومات والبيانات في هذا الكون بهذين الرقمين، ليصل إلى الاجتهاد ومحاولة الوصول إلى الإتقان في كل ما يقوم به، وأن يتضرع للخالق الواحد أن يحفظ لعمان هذه النعم وأن يحميها من الزوال.

 

(يتبع......)

 

___________________________

 

توقيع:

"عَلى قَدْرِ أهْلِ العَزْم تأتي العَزائِمُ.. وَتأتي علَى قَدْرِ الكِرامِ المَكارمُ.

وَتَعْظُمُ في عَينِ الصّغيرِ صغارُها.. وَتَصْغُرُ في عَين العَظيمِ العَظائِمُ."

المتنبي، العصر العباسي الأول..