المتحولون الجدد

 

بدر الشيدي 

 

على لسان إحدى الشخصيات في رواية البطء لميلان كونديرا "لا أهمية لوجودك أمامي، إن وجودك كوجود كلب أو جرذ ، إن تحديقك لن يحرك أي جزء من جسدي وسأتمكن من فعل أي شيء أمامك، سأتمكن من القيام بالأعمال الأكثر وقاحة  فقد أتقيأ أمامك وأغسل أذني وأبول فأنت لا عين ولا أذن ولا رأس. إنَّ لا مبالاتي العالية هي ستار يسمح لي بالتصرف في حضورك بكل حرية ودون أي شعور بالخجل".

في صيرورة التطور الطبيعي للمجتمعات بشكل عام لابد أن يأخذ بعض التحولات إما تمثل استمراراً لنهج ساد منذ زمن، أو قد يمثل انقطاعاً مع ذلك النهج. في الدول المتقدمة نعرف بأنها صاغت أنظمتها وتطورها وولدت أنظمة سياسية خرجت من رحم الثورات والمطالبات الشعبية وقد بلغت ذروتها في حروب طاحنة، لذلك حصل ما يشبه إجماع بين مكونات المجتمعات وخلقت ما يشبه العقد الاجتماعي بينها. وعزمت الأمر على الحفاظ على مكتسباتها ومنجزاتها وذلك بما يليق بالتضحيات الجسام التي بذلتها هذه المجتمعات. في الجانب الآخر من العالم، ومنه بالتأكيد عالمنا العربي الذي لا يزال يُحير الدارسين والباحثين، فهذا العالم ومنذ عقود إذا ما شهد أي تطور أو أحداث أو حداثة أو إذا لاحت له بارقة أمل، سرعان ما يعود خطوات متراجعًا سنوات للوراء. تكاثرت السهام على جسده العليل وحيكت المؤامرات والدسائس التي أغلقت كل الطرق المؤدية إلى تطوره ورفاهية شعوبه ومجتمعاته.

لكن رغم ذلك لاحت بارقة أمل في سماء عالمنا العربي المُلبد أصلاً بالكثير من الغيوم. نشير بالطبع إلى الحدث الأهم الذي شهده عالمنا العربي وبات فارقة في تطور مسيرته، وهو الربيع العربي الذي هو الآخر خرج من رحم المُعاناة والظلم والاستبداد. منذ تلك الفترة والإفرازات تتوالى على المنطقة والهزات الارتدادية للربيع العربي المغدور تتواصل. ويمكن أن يقاس على ذلك صعود جيل جديد من القادة العرب على عروش منهكة أصلاً سقطت أو كانت آيلة للسقوط. فقد ساهمت ظروف كثيرة وتداعت ودفعت بأشياء كثيرة إلى القمة. طبعاً ليست من بينها ظروف ديمقراطية عادة ما تكون هي الرافعة الحقيقية لبروز قادة جُدد في مختلف المجالات.

بالطبع رافق صعود هؤلاء القادة العديد من الوسائل والتحالفات التي مثلت الرافعة القوية لهم. فمن تحالف مع سلطة المال والمنتفعين في الداخل إلى شبكة تحالفات خارجية عجلت بصعودهم إلى الواجهة. كذلك لا ننسى الآلة الإعلامية التي ترافقت مع هذا الصعود ومارست التضليل والتطبيل وعكست الكثير من الحقائق وشيطنت تيارات وأحزاب عريقة وشخصيات ولا نبالغ إن قلنا لعلها شيطنة المجتمع بأكمله.

لكن هذا نصيب منطقتنا. ويبقى السؤال الذي يشغل الخاطر هو، ما الذي جمع هؤلاء القادة الجدد؟

يمثل صعودهم تيارات حداثوية تجنح أو تمثل مبادئ الحداثة والتطور وأهمها بالطبع الديمقراطية وحقوق الإنسان وحكم الشعب بنفسه من خلال المجالس النيابية المنتخبة وحرية الرأي والمعتقد والصحافة وقبل كل شيء ترسيخ مفهوم المواطنة الحقة. وتحويل المواطن من مستخدم إلى مشارك وتوزيع الثروة والتبادل السلمي للسلطة ومبدأ فصل السلطات.. إلخ.

يبدو من المشهد أن هؤلاء القادة قد يمثلون مرحلة قد تكون انقطاعا وانفصالا مع الماضي. أو هكذا تبدو الفترة التي يمثلوها حتى الآن على الأقل، أو هكذا تشير الكثير من الدلائل والمؤشرات. وهكذا فهم جيل جديد من القادة لا يمثلون ثوابت الأمة العربية ولم يعودوا ينتمون إلى مفاهيم سادت لردح من الزمن، وهي في الحقيقة كما قلنا هي ثوابت هذه الأمة وسبب استمرارها في وجه الأطماع الخارجية التي تُحيط بها. فهم لم يعودوا ينتمون للعروبة أو القومية أو التضامن العربي أو المصير المشترك والجوار، أو حتى السمات التي تشترك فيها الكثير من الشعوب العربية.

هؤلاء القادة هم متحولون جُدد لا نجد منهم إلا النزوع إلى الهيمنة والسيطرة والتعالي فهم حتى الآن لا يتورعون عن شن الحروب الخارجية لتنفيذ سياستهم. وعملوا على إشعال النيران في كل الجهات. جيل جديد من القادة لا يضع أي اعتبار للتاريخ أو مبادئ. فهم تحولوا إلى آلة في يد أمريكا وحلفائها تنفذ ما يؤمرون به. فعوضاً عن أن تنتشر في عالمنا العدالة والحقوق والديمقراطية، نجد أن الحروب هي التي تنتشر وتتناسخ في كل مكان وغول المذهبية يطل ويطوق عالمنا من الماء للماء، أصبح التمييز والتسلط والبطالة والفقر وسياسة التفقير تنتشر في كل مكان. وانتشار سياسة قد تكون ممنهجة في تزوير التاريخ وإضفاء تزوير على حقائق تاريخية، ومنها أن تنسب أشياء وشخصيات للغير. نهبت وتنهب ثروات الأمة وبشكل منظم دون رقيب وبتحالفات أجنبية تحت غطاء التسلّح والاستثمار.

هم على وزن (المحافظين الجدد) ليس لهم إلا نشر البؤس والظلام والجهل والنزعة التسلطية القُطرية الشعبوية، والترويج من خلال آلتها وجيوشها الإعلامية وتيارات مثقفيها إلى خطر الديمقراطية التي لن تؤدي إلا إلى ظهور تيارات إسلامية قد تمسك بتلابيب السلطة دون السماح بالتداول السلمي لها.

وهكذا قيض لهذه الأمة ما إن تذوق طعم الحرية والعدالة حتى تتكالب عليها الأمم وتعيدها إلى الخلف لسنوات عدة، وكأن إنذاراً لشعوب هذه البقعة من الكرة الأرضية بأن إذا فكروا في التغيير فإنَّ آلة القمع والضرب على الرأس جاهزة ترفع في أي وقت.

هؤلاء المتحولون لكن الحقيقة تبقى بأنهم يتصدرون المشهد بكل قوة، ولسان حالهم يقول: "بالفعل عزيزي كونديرا، لا أهمية لوجودك أمامي، إن تحديقك لن يحرك أي جزء من جسدي وسأتمكن من فعل أي شيء أمامك، سأتمكن من القيام بالأعمال الأكثر ودون أي شعور بالخجل".

تعليق عبر الفيس بوك