بين يدي سارق المنشار (2)

 

أحمد بن عيسى الشكيلي

لقد طرق سارق المنشار نقاطًا اعتبرُها مفصلية ومهمة جدًا لأية مؤسسة، كما هي مهمة للأفراد أيضًا - حتى وإن كان تناوله لها يتعلق بالإذاعة- إلا أن المنظومة الإدارية في البلد قد تكون متشابهة في كافة الجهات، ومما أشار إليه زاهر المحروقي في كتابه "سارق المنشار" أهمية التوثيق لكل شيء حتى وإن استصغرناه.

فما نراه الآن صغيرًا لا يستحق الذِكر؛ قد يكون مهمًا في المستقبل القريب كما قد يكون مهمًّا الآن لأناسٍ آخرين ينظرون إليه من زاوية أخرى ولأهدافٍ أخرى، طرق زاهر هذا الباب بغيرةٍ وطنية على مقدّرات وطنه وهويته، كما يطرقه الآن جمعُ غفير من الشعب العماني، لقد أشار إلى أن المجتمع العماني مؤسسات وأفراد لم تكن تُعطي هذا الأمر الأهمية التي يستحقها، وأتفق معه في ذلك جملة وتفصيلاً، وما إشارته إلى إتلاف الإذاعة العُمانية لأشرطة وتسجيلات الكثير من البرامج القديمة التي توثق لحقبة زمنية مهمة من حقب التاريخ العماني، كما توثق في الوقت ذاته لفنونها وشخوصها ومقدراتها؛ إلا دليل علة ذلك، وقد لا يكون هذا الأمر في الإذاعة وحدها، فالكثير من المؤسسات وللأسف الشديد لا تحتفظ بالوثائق القديمة ولم تولِ التوثيق أهمية لجعل هذه الوثائق شاهدة على العصر ومتحدثة بلسان قوم عاشوا تلك الحقبة، وقد تكون هنالك أسباب عديدة وراء اتخاذ هذا النهج؛ إلا أنّه مهما كانت الأسباب فإنّها ما كان يجب على المسؤولين اتخاذ قراراً بالإتلاف ما لم يكن هنالك نسخ احتياطية.

ومع ذلك فقد شهد الواقع الحالي ظهور أصوات عديدة تنادي بأهمية التوثيق وضرورته، خصوصًا مع بدء تكاثر ظاهرة سرقة التاريخ العُماني، حتى وإن ظهر من يدافع عن هذه السرقات بدعوى وجود قواسم مشتركة بين بعضٍ من البقع الجغرافية، إلا أن لكل بقعة مميزاتها وهويتها ونسقها الخاص في فنونها وإرثها وثقافتها وحضارتها، حتى على نطاق الداخل العماني فإنّ بعض الفنون والإرث الثقافي الذي تجده في شمال عُمان لا تجده في جنوبها، وما تجده في شرقها قد لا تجده في الداخلية أو الظاهرة، وهذا وفّر لعُمان مخزونا حضاريا وثقافيا وفنيا كبير كان يجب الاعتناء به، ولابد الآن من تركيز العناية به، لأن كل هذه الأمور مقدرات وطنية غالية يجب الحفاظ عليها، ويجب ألا تكون الأبواب مُشرّعة لكل من سولت له نفسه أن يصعد على أكتاف التاريخ العماني وإرثه الحضاري والثقافي، وإننا وبلا شك نأمل أن تعمل كل جهة رسمية وكل فرد ليكونوا حرّاسًا للذاكرة العمانية بأسرها كما كان بخيت الشحري حارسًا للذاكرة الفنية التي تطاير منها الكثير ما بين إهداءٍ وما بين إهمال، ومع ذلك فإننا نعقد الآمال على الهيئة الوطنية للوثائق والمحفوظات خصوصاً وأنها بدأت مشوار توثيق التاريخ المروي، كما عملت على جمع الكثير من الوثائق والمخطوطات العمانية، وهذا لا يعني أن تكون مسؤولية التوثيق مسؤولية مركزية، بل يجب أن تتعدى ذلك وأن تعي كل جهة ومؤسسة أهمية ما يقع تحت اختصاصها من أعمال وواجبات ومسؤوليات وأن تسعى للحفاظ على كل ما يرتبط بإدارة مقدرات هذا الوطن العزيز بما يضمن بقائها عماني خالصة كما يضمن بقائها للأجيال اللاحقة، كما يجب أن يعي كل فرد من أفراد المجتمع العماني أهمية كل قطة أثرية وتاريخية موجودة في بيته أو قريته أو مسجد الحي أو ردهات الحارة العمانية القديمة، ويعي أيضَا أهمية الفنون العمانية فلا يكون سببًا في هدرها، ويجب على كل مسؤول أن يعي أن هذه الأشياء تشكل تاريخًا عظيمًا للبلد، ومسألة الحفاظ عليها مسألة وطنية في غاية الأهمية.

وللحفاظ على ما تبقى من إرث الوطن مهما اختلف نوعه؛ يجب أن يكون هنالك مسحاً شاملاً تجريه الحكومة لكل بقاع الوطن العزيز، سهلاً وجبلاً، حضرًا وبادية، مدينة وريفًا، ولا بد أن تسخر كل الطاقات والإمكانات المادية والبشرية لهذا الأمر، كل في مجال اختصاصه، ويمكن أن يكون هنالك فريق مركزي يدير هذا الأمر، وتتبعه فرق فرعية في كل ولاية من ولايات عُمان، ويمكن لاحقاً استغلال القاعات الموجودة في مشاريع بوابات الولايات لتكون صالات عرض للمقتنيات والآثار العمانية التي تمتاز بها كل ولاية على حدة، فهذه البوابات بها من المرافق ما لم يُستغل حتى الآن، ولابد من التفكير باستغلالها جيدًا واستثمارها استثمارا ثقافيًا يحقق رافداً معرفيًا وثقافيًا وماديًا في الوقت ذاته، فما كان تفكير جلالته عندما أمر بإنشائها أن تكون هكذا جماداً صامتًا. إنّها نداءات متكررة يكادُ يلهج بها لسان كل عُماني لعلها تجد من يستمع إليها.

تعليق عبر الفيس بوك