عبيدلي العبيدلي
من المسائل التي تفرض نفسها بين الحين والآخر على حوارات الفضاء السياسي الخليجي هو الدور السياسي الذي يتوقع أن يقوم به التجار الخليجيون. ورغم أن هناك ما يشبه الإجماع على تقلص حضور المجتمع التجاري، خلال العقود الخمسة الماضية في ذلك الفضاء، لكن النقاشات تتشعب النقاشات، وتتفرع دروبها لكن نتائجها، تعود في نهاية المطاف كي تصب جداول واحد من الأنهار التالية:
- الأول منها يأخذ بعدا تاريخيا، فيسترجع وقائع مرحلة ما قبل اكتشاف النفط، حيث كان الاقتصاد بدائيا، لكنه منتجا، حيث تتوزع أنشطته بين الزراعة، والصناعة الحرفية، وصيد الأسماك، واستخراج اللؤلؤ. كان للتاجر الخليجي في تلك الحقبة حضورا ملموسا في الإنتاج، ولذلك كان جزءا لا يتجزأ من صنع القرار السياسي، رغم خضوع المنطقة للحماية أو الاستعمار الغربي، وخاصة البريطاني.
- الثاني منها يرصد تراجع ذلك الحضور تدريجيًا حتى وصل إلى مرحلة قريبة من التلاشي، ويحدد بداية هذه الحقبة باكتشاف النفط بكميات تجارية، بلغت قمتها مع أول ارتفاع في الأسعار، وتزايد كميات النفط المصدرة. ويحدد ذلك ببداية منتصف الخمسينات من القرن الماضي.
- أما الثالث منها فهو الذي يركن إلى الوسطية، ويعطي للتجار بعض الحضور من خلال النخب التي شكلها أبناؤهم، وارتبطت، بشكل أو بآخر مع دوائر صنع القرار، وكان لها حضور ملموس، مهما كانت ضآلة الحيز الذي كان يشغله ذلك الدور.
- أما الرابع، فهو الذي يوجه اتهاماته نحو التجار، ويحملهم نسبة عالية من مسؤولية تراجع دورهم المناط بهم عند الحديث عن العلاقة بين دوائر صنع القرار ومنظمات المجتمع المدني.
الغالبية العظمى من الدراسات التي حاولت فهم هذا الدور غاب عن رؤيتها الشروط الموضوعية، البعيدة عن رغبات التجار وطموحاتهم السياسية، التي يفرضها الاقتصاد الريعي، من خلال القوانين التي يستحدثها، والتي بطبيعتها والقوانين التي تسيرها، تحدد العلاقة بين فئات المجتمع المختلفة، سواء تلك التي في قلب دوائر صنع القرار، وممسكة بزمام الحكم، أو تلك القريبة منها.
وللاقتصاد الريعي، العديد من التعريفات التي تختلف في التفاصيل، لكنها تلتقي عند نقطة مفصلية واحدة، ترى أنَّ هذا النمط من الاقتصاد يتموضع عندما تعتمد "الدولة على مصدر واحد للريع (الدخل) وهذا المصدر غالباً ما يكون مصدراً طبيعياً ليس بحاجة إلى آليات إنتاج معقدة سواء كانت فكرية أو مادية كمياه الأمطار والنفط والغاز، بحيث تستحوذ السلطة الحاكمة على هذا المصدر وتحتكر مشروعية امتلاكه ومشروعية توزيعه ومشروعية بيعه".
ووفقاً للباحث خالد عبد الفتاح، فإنَّ ما يميز الاقتصاد الريعي عن بديله الإنتاجي، أن بين الإثنين "مساحة من آلية العمل وذهنية الإنتاج التي تختلف بين الإثنين، فإذا كان الاقتصاد الريعي يعتمد كثيرًا على ما تنتجه الأرض فإنَّ الاقتصاد الإنتاجي يعتمد على ما ينتجه الإنسان. هنا فوارق بين أن تعتمد على أرضك وخيراتها، وبين أن تعتمد على يدك وإنتاجها". ويلامس عبد الفتاح الانعكاس الاجتماعي والسياسي من خلال تشخيصه إلى ما يحتاجه التحول من اقتصاد ريعي إلى اقتصاد إنتاجي، إذ يقتضي ذلك "تحويل سوق العمل من توظيف قسري في القطاع العام (تهميش) إلى تشغيل إنتاجي؛ إلى جانب تحويل العنصر البشري من إنسان مذعن إلى إنسان خلاق مبدع؛ وتحويل العدالة الاجتماعية من سوء توزيع الريع إلى توزيع الدخل والحماية الاجتماعية؛ وأخيرا من تشرذم سيادي عربي إلى تكتل سيادي عربي".
في الاتجاه ذاته تجتهد الكاتبة إيمان القويفلي، حين تقول في وصفها لسلوك المواطن في الدولة الريعية، "يأتي الريع من خارج الدولة، ولا يُساهم فيه المواطنون، لا بجهدهم قوة بشرية ولا عبر دفع الضرائب. تقتضي مساهمة المواطن المعدومة في إنتاج الموارد أن تكون مشاركته معدومة أيضاً في إدارتها، حيث يعني احتكار الحكومة الريع بشكلٍ مُطلق، احتكارها السلطة أيضاً وبشكلٍ مُطلق. تنشأ حالة من المقايضة بين المواطن والحكومة، تقوم على أن يقبل المواطن تفرّد الحكومة بالإدارة، في مقابل تمتّعه بمنافع دولة الرفاه، وتتحوّل الحكومة إلى الـمُوظِّف الأكبر للمواطنين في هيكل بيروقراطي ضخم وغير مُنتج، ومصدَر المنافع المجّانية في التعليم والرعاية الصحية والإسكان، ويتحوّل المواطن إلى زبون دولة الرفاه الذي يقتصر دوره على تّلقي المنافع والهبات والامتثال للقرارات والسياسات الحكومية".
نقطة مركزية أخرى يلفت لها الكاتب صالح ياسر في علاقة السلطة بالمواطن في ظل الاقتصاد الريعي، هي عندما تصبح الدولة بفضل دخلها الريعي المرتفع إلى "أكبر رب عمل، أي أكبر من يوظف الموارد البشرية، لتكرس تبعية الجميع للقطاع الحكومي. وهي في ذلك تحاول استقطاب كافة الشرائح والفئات الاجتماعية... وفي وضع كهذا تسقط أي دوافع اقتصادية حقيقية لدى الفرد والجماعة قد تدفع للتحرك من أجل المطالبة بإقامة ديمقراطية تمثيلية، ولا يبقى سوى بعض الأفكار الدينية أو العوامل الثقافية أو اللغوية أو المناطقية التي من شأنها تجميع الناس وتحريكهم. وحتى هذه لا تلبث أن تنتهي إلى الفشل نتيجة هشاشة القاعدة التي تستند عليها ومحدوديتها في الزمان والمكان، وكذا قدرة الدولة وتحكمها في الموارد الأساسية وطرق توزيعها".
كل ذلك يقودنا إلى أنَّ الحيز السياسي الذي بات يشغله تجار الخليج قد تقلص بفضل نمط الإنتاج السائد، وليس كما يتوهم البعض، عائد إلى رغبة التاجر، أو إلى التربية التي تلقاها في المنزل. فمنتج الاقتصاد الريعي هو مواطن، تاجرا كان ذلك المواطن، أم موظفا، خاملا، غير قادر على فرض رؤيته على الطبقة التي ينتمي إليها، فما بالك بمن هم خارج تلك الطبقة.
وأي تغيير يطمح إلى إعادة كتابة المعادلة بين فئات المجتمع المختلفة، بحاجة إلى إعادة هيكلة الاقتصاد من واقعه الريعي، إلى مستقبله الإنتاجي. وما لم يحدث ذلك تصبح التحولات هامشية أولا، وآنية ثانيا، وغير قادرة على النمو والبقاء ثالثا وليس أخيرا.