إدارة غازي القصيبي

 

خولة بنت سلطان الحوسني

لم يكن العثور على كتاب "حياة في الإدارة" للراحل غازي القصيبي أمراً سهلاً كما توقعت ولا أبالغ عندما أقول إنني استغرقت أكثر من سنة للحصول على نسختي التي أنتهيت من قراءتها قبل أيام من كتابة هذا المقال.

رحلة البحث الطويلة ليست بسبب عدم توفر الكتاب في منافذ البيع ولكن بسبب الشهرة التي حصدها وما زال يحصدها على الرغم من أنه يعتبر قديماً من حيث السنة التي نشرت فيها أول طبعة وهي سنة 1998م، ويتم الآن توزيع النسخة السادسة عشرة، حيث يتوفر في معارض الكتب والمكتبات ولكن بسبب الإقبال الكبير كانت تختفي النسخ بسرعة إلا في إحدى المكتبات التي فاجأتني بأنّ الكتاب ممنوع لديها وهذا ما لم أستوعبه وجعلني مصرة على الحصول على نسختي منه والآن وقد أنتهيت من قراءة الكتاب لم أعثر فيه على ما يجعله ممنوعاً من النشر إلا من بعض الصراحة الواقعية والجرعة الديمقراطية والتي قد يتحسس منها البعض.

هذا الكتاب هي تجربتي الأولى في عالم غازي القصيبي وقد بدأت به لاحتياجي لما يعينني في مهمتي الإدارية الحالية فكان قرارا صائبا حيث به من التجارب المتنوعة والمتعددة ليستفاد منها، فهو شخص تقلد مناصب قيادية في فترة حساسة من عُمر بلاده وكان له بصمة يشار إليها من الآخرين الناجحين قبل أن يتكلم عنها بنفسه كافية بأن تعطي القارئ جرعة دسمة في هذا المجال أقصد مجال الإدارة أو حتى الاستفادة من تجربته في الحياة بشكل عام وإن كان قد خصص الكتاب لتجربته الإدارية الصعبة الثرية التي أنتهت وسط تحدٍ كبير، لم تسنح له الفرصة لإكمالها وهو تحدي وزارة الصحة حيث كانت آخر حقيبة وزارية تسلمها المرحوم وكانت تركة ثقيلة ومعقدة وكان هو من اختارها على عكس الوزارات التي سبقتها والتي أختير لها فبعد سنوات من التجربة الوزارية رأى أنَّه قادر على أن يُدير هذا الحمل وأن يخفف من معاناة الملك إزاء هذه الوزارة بعد أن وصل وضعها إلى حالة يرثى لها، كثرت الشقوق والانهيارات التي كانت داخلها جعلت مُعالجتها ليس بالسهولة وتحتاج إلى الكثير من الوقت، سنة ونصف السنة لم تنصفه حيث إن قاعدته التي دائماً يكررها (لن يكون هناك تغيير قبل خمس سنوات ولا ينتظر أي جديد بعد خمس سنوات) وكانت هذه نهاية المشوار الوزاري القيادي في المؤسسات التي صقلت تجربته الإدارية الفريدة فكثرت العثرات أنتهت بالنجاح ولكن لم ينته مشواره الوظيفي معها فكانت له تجربة في السلك الدبلوماسي في سفارة السعودية بالبحرين والتي أيضاً اختارها بنفسه وكان أول سفير سعودي في البحرين حيث أراد أن يكون بالقرب من بلده ولكن لم يتحدث عنها كثيراً من باب أنها تجربة بسيطة لا تقارن مع تجاربه الثرية في الوزارات.

كتاب "حياة في الإدارة" حمل تجربة غازي منذ أن كان طفلاً معللاً أن علاقة الإنسان بالإدارة تبدأ عندما يكون طفلاً ثم عرج على مراحل دراسته المختلفة التي أرتحل خلالها في دول مختلفة منها أمريكا وبريطانيا وهذا ما جعل الحظ لصالحه عندما أختير كوزير فيقول في إحدى صفحات الكتاب (من اختيروا في الفترة التي أخترت فيها كوزير اختيروا بسبب دراستهم في الخارج، حيث كانوا يبحثون عن دماء شابة تلقت تعليمها في الخارج بغض النظر عن الأسماء وما تحمله من مهارات قيادية) ، كما كان يردد بأنَّ الإدارة لا يشترط فيها التخصص لأن الإداري هو من يُدير ويخطط بشكل عام ولكن هناك من ينفذ وكل حسب اختصاصه فعندما أختير ليكون وزيراً للكهرباء كان يقول لم أكن أعرف كيفية التعامل مع الكهرباء وهذا ما لم يكن ضرورياً فهناك المهندسين والمتخصصين الذي يقومون بتنفيذ العمل وليس أنا، لذلك كان نقده على من يختار أصحاب التخصص للمناصب الإدارية فمن هو ناجح في تخصصه ليس شرطاً أن ينجح في الإدارة وخاصة إدارة مؤسسة بل إنه من الأفضل أن يكون بعيداً عن تخصصه حتى لا يتحيز لزملاء التخصص في مؤسسته ولكي لا يخوض في التفاصيل الدقيقة التي يمكن أن تشغله عن أشياء أكبر يجب أن يركز عليها، لكنها تبقى وجهة نظر الكاتب قد يختلف البعض لكن أرى أنها صحيحة منطقياً خاصة وأن الواقع يحكي أن الكثير من المتخصصين لم يستطيعوا إدارة دفة المؤسسات التي عينوا لها لذلك يمكن القول إنَّ وجهة نظره لا تخلو من الصحة، ومن جانب آخر تحدث غازي في كتابة عن العمل من أجل الشخصية بمعنى أن بعض الموظفين يقومون بوظيفتهم من أجل الوزير وليس لحب العمل لذلك عندما كان يقوم بزيارات ميدانية مفاجئة وهذا ما تميز به في تجربته الإدارية، على سبيل المثال إذا زار أحد الدوائر التي تتبع المؤسسة يتفاجأ بالوضع السيئ في أول مكان يزوره ولكن مع انتشار خبر زيارته يبدء الوضع في التحول إلى الأفضل حتى يصل إلى آخر مكان في تلك الدائرة والوضع فوق الممتاز وهو يعلم تماماً ما يحدث ومع ذلك كان يُثني عليهم من باب التحفيز وزيادة الثقة في نفس الموظفين وإن كان هذا التحسن في الوضع بسبب زيارته ولكنه كان يشجع الموظفين ليظل كذلك بعد زيارته.

كما أنه تحدث عن نقطة ملاحظة بكثرة في مجتمعنا الخليجي والعربي بشكل عام ولم تكن جديدة بالنسبة لي وهي أنه كان دائم الظهور في وسائل الإعلام المختلفة وأحياناً بشكل يومي على عكس الوزراء الآخرين لدرجة أن أخباره تظهر وإن كانت أحياناً مهمات خاصة ولم يخطط لها والسبب يعود إلى أن أصدقاءه من الوسط الإعلامي لذلك كان مصدرا سهلا للحصول على المعلومة وكان متجاوبا مع الإعلاميين لذلك كانت إنجازاته وأخبار المؤسسات التي رأسها لها نصيب الأسد في وسائل الإعلام المختلفة.

على الرغم من أن عنوان الكتاب وغلافه تقليديين لا يشجعان القارئ على اقتنائه إذا ما أخذنا في الاعتبار أهمية الغلاف والعنوان في جذب القارئ لكن من يعرف هذه الشخصية وحجمها وتجاربها في الوزارات المختلفة سيكون على يقين بأن هذا الكتاب إضافة قوية لمكتبته الذهنية وكثير من المفاهيم الإدارية والوظيفية لن تظل كما كانت قبل قراءة هذا الكتاب لن أزيد الكثير فقط أود القول إن هذا الكتاب هو لمن قطعوا شوطا ولو بسيطا في عالم الإدارة أو الوظيفة بشكل عام لأنه يحمل من التجارب التي لن يستوعبها إلا من مرت عليه مواقف مشابهة أو استوعب الوضع العام للحياة العملية.

@sahaf03

 

تعليق عبر الفيس بوك