العقل والعلم.. بين التقارب والتنافر

عبد الله العليان

قرأت منذ عدة أيام مضت، لأحد الكتّاب، تعليقاً في أحد مواقع التواصل الاجتماعي، عن مسألة العقل وحدوده، واعتبر هذا الكاتب أنّه "نقطة الارتكاز لتأكيد قدرة الإنسان على بلوغ الحقائق".

ومع أنّ العقل في الإسلام له مكانة كبيرة ورفيعة، وقد خص القرآن الكريم عشرات الآيات التي تشير إلى ضرورة استخدام العقل والتفكر والتدبر والنظر فيما يراه ويشاهده من مخلوقات وكائنات بهدف الإيمان بخالق هذا الكون، وهذا يدل على أهمية العقل ومكانته في الرؤية الإسلامية، لكن يظل هذا العقل محدوداً، بحدود قدرات هذا الإنسان الذي سيبقى دون إدراك الكثير من الحقائق في هذا الكون، حتى التي يدرسها تبقى غير ثابتة، ومن العلماء من أظهر بعض الآراء والنظريات العلمية، قبل قرن من الزمان وبعده، ثم ظهرت نظريات علمية وبحثية، أثبتت خرافتها علمياً، وأتذكر أنني في التسعينيات من القرن الماضي، عندما كنا ندرس في مرحلة التعليم العام، كان المنهج آنذاك من تطبيقات إحدى الدول العربية الشقيقة، قبل تطبيق المنهج العماني الحالي، وكانت النظريات المسمى علمية في كتاب العلوم عن (خلق الكون)، تثير الاستغراب من كثرة تناقضاتها مع بعض البعض، وهذه النظريات التي اعتبرها البعض ـ في وقتها ـ أنها ترتقي إلى العلم الخالص ودليلا لا يقبل النقاش، فكل نظرية تكذب الأخرى، ومنها التي لا تزال عالقة في الذهن والعقل كيف تكّون هذا الكون؟ فتقول إن (سحابة كانت تسبح في الفضاء، فتكثفت وتكثفت، فصارت أرضاً وسماءً وجبالا.. إلخ) ومنها أن (جرمين من الأجرام كانا في الفضاء يسبحان، فتصادما، فنتج عنهما هذا الكون وما فيه من مخلوقات)! هل هذا الكلام القول يقبله العقل والمنطق؟ مع أنه نتاج عقول كبيرة وعلمية، لقيت نظرياتها اهتماماً كبيراً لعقود طويلة، وهذه كلها الآن سقطت علمياً من عقول أخرى جاءت بعدها؟ فهذا النظام العظيم الدقيق والعجيب في هذا الكون، جاء بسبب تصادم عشوائي دون عناية خالق ومقدر؟ هل هذه السحابة السابحة في الفضاء، تفعل كل هذا النظام ومخلوقاته وعقوله؟ وبهذه الدقة التي عجز عقول البشر في أبحاثهم عن الوصول إلى سبب نشأته؟

الذي أريد الوصول إليه أن العقل البشري يظل محدوداً، وتلك حكمة إلهية في مخلوقاته، ومن هنا تبقى للعقل مجاله المحمود في  التدبر والتفكر والنظر في حدود استطاعته، وعدم السكون والركون لما هو واقع، لكن أيضا من المهم ألا نعطي العقل، أكثر مما فوق استطاعته، ولأن الإنسان لديه الكثير من النوازع  والأفكار البشرية، التي يرى أنه تستطيع أن تعرف كل ما أخفي عنها، وأحياناً يرفض قضايا عقلية ومنطقية تتقافز أمامه ببراهينها، والسبب أنّه أركن إلى النفس الإنسانية بنوازعها الكثيرة المتقلبة، وإذا صدقنا أنّ الغرب تقدم علمياً عندما أقصى الكنيسة عن ممارساتها التعسفية ضد العلم والتقدم، فإنّ هذا القول مردود عليه، لأنّ العقل الغربي واجه حرباً ضروساً من الكنيسة المسيحية، ضد النظر والتدبر والاختراع، فهل الإسلام فعل ذلك؟ لا هذا لم يحصل، بل إنّ العقل العربي الجاهلي قبل الإسلام كان سدا منيعاً ضد الحقائق الإيمانية والعقلية، وعندما جاء الإسلام وأتاح المجال للنظر والعلم والتدبر، أنشأ حضارة إسلامية  كبيرة مترامية أعترف بفضلها الغرب، وظهر عشرات العلماء في قرون مختلفة في شتى العلوم الإنسانية، فهذا القياس مع في الغرب قبل عصر الأنوار، على تخلف المسلمين، (قياس مع الفارق)، كما يقول علماء الأصول، فتأخرنا أسبابه، ليست كوننا ضد العلم والتقدم والاختراع، بل عوامل أخرى، ليس هذا المقام مناقشته، بل إنّ هذا الاستعمار العقلاني العلموي، هو الذي ساهم في التخلف والتقهقر. ثم لننظر في مسألة العقل والعلم عند عصر الأنوار وفلسفته وما بعده، البعض يعد عصر الأنوار، هو قمة التنوير والعقلانية والعلمانية، وهذا العصر هو الذي يجب أن يحتذى؟ تعالوا ننظر ما جرى بعد هذا العصر وما بعده، لنرى كيف طبّقت هذا العقول التنويرية على البشر الآخرين؟ وكيف تحقق فعل هذا العقل في العقول الأخرى إنسانيا؟

لقد استباح الغرب بعد عصر الأنوار، شعوب العالم وأرضه، ونهب خيراته؟ ودمر وقتل الملايين عندما رفضت الشعوب هذا الاستعمار وقهره وظلمه؟ مع أنّه ادعى أنّه جاء إلى تمدينه وانتشاله من تخلفه، وليس هذا فحسب، بل إنّ هذا الغرب العقلاني العلمي والتقدمي والديمقراطي دخل في حروب طاحنة، بسبب المغانم والمطامح في أراضي الشعوب الأخرى، بعد ظهور الصناعة وبروز الرأسمالية المتوحشة، التي فعلت فعلها في استعباد الشعوب وجعلهم صخرة في خدمة مطامحها.

فأين هي العقلانية المنطقية عند نموذج التنوير العقلاني؟ أين هو العقل والمنطق في هذه الحروب بينهم؟ التي حصدت عشرات الملايين من القتلى والجرحى؟ أين العدل والمنطق في تدمير بلد كالعراق وتفتيته وتمزيقه. بدعوى امتلاكه سلاحا نوويا؟ ثمّ ماذا ظهر عن قضيّة السلاح النووي في هذا البلد الذي راح فيه مئات آلاف الضحايا والتدمير والتهجير جراء هذه الحرب.. الخ: الواقع أن البعض يتعلق بقضايا وآراء، دون أن يبحث جيداً في الأقوال والأفعال؟ وهل الكلام الذي يطرح يقارب واقعه أم يخالفه؟ فقضيّة العقل والدين، قضيّة تحتاج إلى فحص ودرس، والتأصيل جيداً في المضامين، فهل المقاربة دقيقة أم لا؟ العلم ليس ثابتاً فيما هو ثابت عنه، بل هو في تغيّر مستمر مع تقدم العلوم الإنسانية والعلوم حتى التجريبية، وهذا ما يقال ويطرح في الغرب نفسه، فكثير من الآراء العلمية ترفض الآن، وتأتي فروض أخرى تناقضها، بل وتنسفها تماماً، وهذا دليل أنّ العقل محدود وسيظل كذلك في افهامنا وعقولنا.

لذلك علينا ألا نتخذ العقل مرجعاً ثابتا وحيداً في معرفة الحقائق الغائبة أو التي نراها نحن في حدود قدراتنا، ولا العلم في فروضاته المتغيرة غير الثابتة أيضا، فمفاهيم الإدراك تتغير وتتقدم مثل الأجهزة الإلكترونية وهذا يدل أن الغائب عن عقولنا وأفهامنا قليل جداً الذي لم ندركه حتى الآن.. قال تعالى (وما أوتيتم من العلم إلا قليلا) صدق الله العظيم.