د. سيف بن ناصر المعمري
أصعب اللحظات في حياة أي مجتمع هي انتشار الفراغ، واتساع دوائره، وظهور أبطال له يتحركون في الفراغ، رغم أن هذا ليس وقت أبطال الفراغ إلا أنهم هم الذين يُسيطرون على المشهد العام حاليًا، ويحاولون إيهامنا بأنهم منهمكون في العمل فلا وقت لديهم لأيِّ شيء، بل لا وقت لديهم للجلوس في أماكن عملهم، فإن اتصلت بهم لا تجد من يُجيبك، وإن ذهبت إليهم قيل لك إنهم في مهمة عمل، وبحجة مهمة العمل المزعومة لا تجد كثيراً من المسؤولين في أقسامهم ودوائرهم لا في بداية اليوم ولا في نهايته، ولا في بداية الأسبوع ولا في نهايته، إنهم يعملون في الفراغ الذي لا نعرف عنه شيئاً، كل ما نعرفه ويعرفه الذين يعملون معهم أنهم لا يعرفون ما طبيعة العمل الذي يجعلهم بعيدين عن العمل، ولأنهم غير موجودين لا يتحرك العمل، ولا يكترث الموظفون لأي مُراجع، أو يردون على الاتصالات التي تصل إليهم، وهم في مكاتب اتخاذ قرار مهمة، يبدو أننا تحولنا من مرحلة الترهل الحكومي إلى مرحلة العمل في فراغ، مع أبطال يتصدرون المشهد ولكنهم لا ينجزون إلا الفراغ واللاشيء الذي يضاعف من وطأة التحديات التي تواجهنا، فلم يسيطر أبطال الفراغ على الأماكن التي يمكن أن يتم من خلالها بناء الإرادات والدافعية وقيادة المؤسسات بمختلف مستوياتها إلى التجديد والابتكار بما يتناسب ووطأة التحديات الاقتصادية التي نواجهها.
ثلاثة مواقف حدثت خلال الأسبوع الماضي متعلقة بسيطرة أبطال الفراغ، أود أن أسردها هنا للتدليل إلى أين قاد أبطال الفراغ مؤسساتنا، الموقف الأول حدث لي في المؤسسة التي أعمل بها حيث أتصل بموظفي أحد المكاتب المهمة لأيام متتالية ولكن لا أحد يُجيب، وظننت أنهم أغلقوا المكتب ولكن حين سألت قيل لي إن المكتب لا يزال يعمل ولكن الموظفين لا يحبون الحديث مع أحد إلا مع أنفسهم، فقلت حديثنا موجز وقصير لا يتطلب إلا ختماً، وعلى استعداد لأن ندفع ثمن الخدمة طالما لا يرضون أن يقدموها كما ينص عليه الواجب، أما الموقف الآخر فكان لزميل ذهب إلى مؤسسة الأسبوع الماضي لإنجاز معاملة تعذر إنجازها بالوسائل السهلة وهي الاتصال عبر الهاتف، وحين دخل في منتصف اليوم وجد سبعة مقاعد من أصل عشرة فارغة بما فيها مقعد المُدير، لكن الأمر لم يقف عند هذا الحد ولكن حين دخل وسلم لم يرد عليه الثلاثة، فكرر السلام بدون رد، واكتشف لاحقاً أنهم يضعون سماعات على آذانهم، فاضطر أن ينزع سماعة أحدهم ليكلمه في شأنه فقال له لن ينجز مُعاملتك إلا المدير إلا أنه غير موجود منذ ثلاثة أيام، وحين سأل عنه قيل إنه في مهمة عمل، فخرج من هناك إلى الدائرة الأكبر ووجد الأمر مشابهًا فمن أصل 15 مكتباً هناك 10 مكاتب فارغة بما فيها أيضاً مكتب المدير الذي قيل له أيضاً إنه في مهمة عمل، يا لها من مهمات عمل تعيق العمل، البلد كلها في مهمات عمل ولا أحد في العمل، ولا تتحرك أعمال المؤسسات والمواطنين، والمقاعد فارغة هجرها موظفوها إلى أين لا أحد يعرف إلا المديرون الذين أيضاً في مهمات عمل أين لا أحد يعرف، والعمل مؤجل حتى تنتهي مهمات العمل، ولا يبدو أنَّ هناك نهاية لها طالما الفراغ أصبح سياسة لا أحد يُريد أن يوقفها، أما الموقف الثالث فهو إلى حد ما مشابه حيث اتصلت هذه المراجعة عشرات المرات للاستفسار عن معاملة ما لكن لم يرد عليها أحد فاضطرت إلى الذهاب وكان حظها أفضل من غيرها لأنها حين لم تجد المديرين اتصلوا بأحدهم وكان أيضًا خارج الدوام في مهمة عمل، لكن رغم الإشكالية الكبيرة التي تعاني منها إلا أنّه قال لها لا استطيع أن أفعل لك شيئاً، فردت عليه لما وجدت هنا، إن كنت لا تستطيع أن تفعل شيئًا للمراجعين من المواطنين، ومن وضعك هنا لتكون جريئًا في التنصل من واجباتك الوظيفية، انتهى الأمر وقالت لي هذه المراجعة تملكتني الرغبة في البكاء إلى هذا الحد وصل الأمر بنا لكي ننجز معاملة أن نتعرض لكل هذا الألم والمهانة وأن نواجه أبطالا يتصدرون المؤسسات وتصر هي أن تضعهم ولكنهم لا ينجزون شيئاً مما يجب في وقت تريد البلد أبطالا حقيقيين يعملون على تطوير هذه المؤسسات، وزيادة فاعليتها من خلال تحقيق جودة في كل شيء، ولكن كيف لنا ذلك إن كان الواقع هكذا؟
لم نعد نخشى أن يسود هذا الواقع غير المنطقي على حياتنا، ومؤسساتنا إلا أن غياب المحاسبة والمراقبة من الحكومة، ووجود من يحمي هؤلاء يتركون أماكنهم للفراغ عله ينجز ما يفترض أن ينجزوه هو الذي قاد إلى هذه اللامبالاة التي تتنامى، ولم تفلح البصمة في حماية المؤسسات من الفراغ بل ضاعفت منه، لأنها قررت على فئة وتركت فئة تخرج في مهمات عمل لا تنتهي، ولم نسمع يومًا عن رغبة حكومية في الانتفاضة على هذا الواقع، بل نجد أن العمل جار على تكريس فراغ لا ينتج إلا واقعًا مريرا، نتحسر فيه على فكرة المؤسساتية التي فشلنا في تحقيقها، وأفشلت وأخرت كثيرا من الخطط والسياسات لدينا، فمتى سنقضي على الفراغ وأبطاله، ونحقق الانطلاقة الموعودة التي لا تسمح بأن ينبت الفراغ ولا أن يظهر أبطال له..