أنت مزيف يا صديقي الدوغمائي وهم حقيقيون


سعيد شحاتة – مصر


سأحتسي الشاي وأخرج لمقابلة الدوغمائيين المزيّفين المصادرين على آراء الجميع وكأنهم أوصياء نصّبوا أنفسهم لهذه المهمة، سأقابل أيضًا مصاصي الدماء الخونة، والجوعى ومروّجي الشائعات وبائعي البطاطا، ومعلقي المشانق الوهمية للوهميين في الميادين الوهمية..
كل شيء سيسير على ما يرام لأنني كما عودتهم أمضي دون ضجيج، سأزيح العوائق من طريقي بمنتهى الهدوء كي لا أستفزّهم، وسأشعل تبغتي من حرارة وجوههم بمنتهى الهدوء، وأعلّق كوفيتي في مسمارها الذي رشقته في قفا أحدهم بمنتهى الهدوء، وأخرج قلمي من جيب أحدهم لأرسم وجوههم البائسة على ظهورهم ليروا أنفسهم أيضًا بمنتهى الهدوء..
حينما أنتهي من هذا الدخان الكثيف سأطفئها في كفّ أحدهم ردًّا على زيفه، وأعود محملا بالنشوة لأعاود الكرّة في اليوم التالي بعد أن أحتسي الشاي وأنا في غاية السعادة.. أخرج لمقابلتهم وأنا في قمّة الهدوء كي لا أزعج جذوع الأشجار والنباتات الصغيرة الخضراء، والفراشات المزركشة، وأوجه الدوغمائيين الساخنة التي سأشعل منها أوراقي القديمة المهملة وصناديق القمامة وكتب الغواية التي لا أحتاج إليها بمنتهى الهدوء...
فالأمور كلّها تتعلق بالحرية الشخصية والإرادة، ومن أراد أن يصادر فليصادر على نفسه فقط.. فالدوغمائي كائن لا وجه له، يتعامل مع الحياة باعتبارها غنيمة ومع الفقر باعتباره كنزًا استراتيجيًّا سيتمكن به من اعتلاء ظهور الفقراء والمسنين والعامة.. على الرغم من أنه يعامل الفقير كغبي والمسن كعالة لا حق له في شيء والعامة كزوائد دودية..
 نعم أيها الدوغمائي.. أنت تعامل الجميع بمنتهى الدونية لأنّك عاجز عن مجاراتهم في فقرهم وفي أوجاعهم وفي طرق تفكيرهم البسيطة.. أينعم أنا أفعل بك كل هذه الأفاعيل بمنتهى الهدوء، وأرى أن هؤلاء الحقيقيين لهم الحق في أن يعاملوك كغبيّ، أحمق، متعجرف، غوغائي، زائدة دودية يجب التخلص منها على الفور قبل أن تنفجر فتصيب الجسد بالتسمم..
وفي أضعف الأحوال يمكنهم أن يعاملوك  كعاجز وهنا ستجدهم أكثر حنوًّا منك.. لأنك قاس معهم، حياتك الكاذبة علّمتك القسوة والنذالة والحقارة، علّمتك أن تتاجر في كل شيء، وأرغمتك على السير على قضيب واحد في اتجاه واحد نحو هدف واحد هو أنت، ذاتك المنتفخة وضميرك السيّئ.. أمّا هم فلم تعلمهم الحياة سوى التعاطف والرحمة والشفقة والمحبة واقتسام الرغيف اليتيم الذي لا يحتكمون إلا عليه مع أي غريب يقطع الطريق نحو ما يجهله...
أنت صنيعة التخلّف والمرض والسوء والعقل ذي الخلايا التالفة، دوغمائي لآخر مدى، لا تريد أن تحدّق في شوارعنا الحزينة لتتعرف على أسباب حزنها بقدر ما تحاول استغلاله للترويج لتجارتك الرخيصة، أنت لا تعلم أن الحزن أيها الأحمق هو الشيء النبيل الذي نعتز به هنا لأنه الشيء الوحيد الذي يقرّب أرواحنا من بعضها أكثر، الحزن هو تميمتنا للتغلب على الوجع والوحدة والفقر والجوع، هو عصاتنا التي نهش بها ذبابنا من فوق وجوهنا الحزينة.. نحن لسنا بحاجة لمن يتاجر بأحزاننا، نحن بحاجة لمن يجعلنا أكثر دفئًا وقربًا ومحبة..   
أيها الدوغمائي الفاشي الفاشل، لا توقف الفقير ودعه يحدد ما فشلت أنت في تحديده فهو قانع طوال الوقت بوجبة واحدة، وكوب ماء واحد، وثوب واحد، وفراش لا تتغير ملاءته.. ولا يعنيه على الإطلاق اقتسام الغنائم ولا توزيع الثروات ولا الجلوس في مكاتب الساسة لتقبيل الأيادي في الخفاء، والصراخ لادّعاء البطولة المزيفة في العلن.. ليس بحاجة لأن يوضع اسمه في واجهات الصحف لكنه بحاجة إلى أن يطعم كلبًا ضالا في طريق مهجورة، أو يغطي قطة ضعيفة بنصف قميصه الشفاف المهترئ ليتشاركا دفء قلبيهما الصغير..  
أنت جلست على الأرائك الوثيرة تنتظر عطايا أسيادك في الخفاء.. وهم جلسوا على أطراف الرصيف ينتظرون بلادهم الغائبة في العلن، شاركتهم السيجار الكوبي غالي الثمن، وهم التفوا حول بعض الحطب في قرانا النائية للتندّر بما تفعله من ترهات، هم قرأوك جيدًا ومن تجلس معه قرأك جيدًا، أنت عارٍ تمامًا أيها الكائن المستفز، هل تعلم أنك تمضي بلا سروال أمام الجميع؟ بالتأكيد لا..
أنت دائمًا خفاء حتى أمام ذاتك المثقلة بالمداهنة والطمع، وهم دائمًا العلن وإن كانت نفسك المتضخمة ترى غير ذلك...
صدّقني.. أنت مزيف يا صديقي الدوغمائي وهم حقيقيون.. مزيف كرائحة ضميرك الكريهة، ونظرتك الصفراء العاكسة جوهرك الكاره المكروه.. وهم حقيقيون كحياتهم التي يحيونها بكل ما يملكون من مشاعر صادقة ونبل لا ينتهي..
أنت كنت تتوارى خلف كاميرات القنوات الخاصة وهم يفتحون صدورهم لحمايتك من الرصاص، يستقبلونه بمنتهى المحبة وأنت تتاجر بهم بمنتهى الخسّة والوضاعة..
أنت بعت بأسعار زهيدة وهم اشتروا بأعمارهم
أنت تاجر سيّئ الحظ، تعس، وهم تجّار طيّبون يحسنون التصرف لأن نظرتهم أعمق من نظرتك الدونية وقلوبهم أكثر اتزانًا من قلبك الموتور...
أنت صنيعة ما خفي عليهم، أما هم فصنيعة الشارع الأكثر ذكاءً ونضجًا ومعرفة وحكمة... الشارع الذي إذا اتفّق رفع وترفّع وإذا غضب خسف وأطاح
لذا دعهم وشأنهم...  يرقصون ويمرحون ويضحكون ويتباهون بأرواحهم المنهكة كي يناموا فرحين على أطراف الرصيف وهم يغلقون أجفانهم على الشمس، وأحضانهم على رغيف يتيم سيقتسمونه مع أي غريب يقطع الطريق نحو ما يجهله...
دعهم وشأنهم لأنهم صادقون كأوجاعهم وأنت كاذب "كحملك الكاذب"..

 

تعليق عبر الفيس بوك