بيكاسو الناطق الإعلامي باسم القتلة

جمال قيسي - العراق


(العالم ليس كبيراً بما فيه الكفاية ليسعني أنا وبيكاسو).. في ١٣ من ديسمبر عام ١٩٢٢ أقدم الرسام الكبير جون وليام كودوارد على الانتحار وترك رسالة يشرح فيها معاناته والأسباب التي بموجبها أقدم على إنهاء فجيعة الحياة، وكانت هذه الجملة الصادمة  مؤشر يوازي شاهد قبر،، ضم في داخله  جثة عريقة ربما تمتد سنين ولادتها إلى عصر اليونان الذهبي، وحتى زمن بيكاسو، كان الرسام كودوارد (بالمناسبة ترجمتها: نحو الله) ،، من أساطين المدرسة النيو كلاسيكية التي أعادت للفن هيبته في محاولة انتشاله من الانحدار الأخلاقي، في تصور الخروج من القيود، تمثل النيو كلاسيكية ، الفن الإلهي من خلال التفخيم لمظاهر الجمال الإلهي وردة فعل أخلاقية مرتبطة بمرجعيتها الإلهية، في إطار الجو الفكتوري، على الثورة الفنية التي ابتدأت على يد بول سيزان من خلال كسره للقيود الأكاديمية وفق أطروحته  التي  مفادها (كل الأشكال في الطبيعة عبارة عن مخروط وكرة واسطوانة)  وبذلك فتح باب الشيطان، وأعد العدة للهجوم على الله، فتسارعت الأحداث على يد الانطباعيين  لتخرج الأمور عن السيطرة على يد سورات اعتماداً على نظرية الضوء، والحركية التي أضفاها فان كوخ على سكونية اللوحة، حتى جاء زمن بيكاسو أحد أهم القتلة المشتركين في اغتيال فكرة الله.
لماذا يعتبر بيكاسو أهم فنان في التاريخ؟.
ليس لأن لوحاته ذات قيمة جمالية، رغم أنها لاتخلو من بعض البعد الجمالي، وليس لأنها ذات مضمون أخلاقي، بل العكس إنها تمزيق للقيم الجمالية، وتفكيك للجسد الفني بصورته الإلهية الجميلة، مجمل أعماله بمثابة البيان الرسمي للتأبين على القيم الجمالية  وإعلان  تمرد الإنسان على الله، وانفصاله عن خالقه، إنها القطيعة  والضياع  والرجوع إلى التيه، ولكنه تيه عظيم،
بعد كل هذا نرجع لنبحث في أهمية مشروع بيكاسو، ولسعة المشروع وخطورته وغرابته  وفعاليته الإجرائية ، كان من الصعوبة بمكان، وضع الأُطر (تأطير الشيء أو الفكرة، وضع سياقات محددة ، يكون البحث ضمنها)، إلا أن عبارة، صديقته غوترويت، وصاحبة الفضل بتعريف الوسط الفني على بيكاسو وترويج أعماله، عندما قالت بعد أن تم سؤالها عنه، في حينها كانت الطائرة قد دخلت الخدمة لنقل المسافرين إلا أنها كانت حصراً على الأغنياء والمهمين، ولم يتسن للأغلبية. ارتيادها، قالت (عندما تطل بنظرك على الأرض من نافذة الطائرة، تشاهد الأرض والمدن بصورة مختلفة، وتختفي الصور الجمالية المألوفة  تصبح لديك الأشكال خطوط  عشوائية، تدحض الخيال، وتنظر إلى العالم بغير الصورة التي رسخت في الذهن وتم الاعتياد عليها على إنها من المسلمات  هكذا هو بيكاسو رائي في طيارة شاهد العالم الذي نألفه  بصورة مختلفة  وجسده في لوحاته،،،) ،،نعم. تكمن عبقرية بيكاسو في كونه فهم العالم وفق التصورات المجردة ليسبق بذلك كل المفكرين ومدارس الحداثة وما بعد الحداثة، من بنيوية، وتفكيك، لوحاته عبارة عن مجموعة خطب مركزية  للبنيوية والتفكيك، لقد سبق الشكلانين الروس في اللغة، والسويسري دي سوسير، وسارتر في الوجودية، ورولان بارت وفوكو، وشتراوس، في بحوثه الانثربولوجية البنيوية، وتقدم على دريدا وتشومسكي، وبول ريكور، بل وتقدم على كل نتاجات التاريخ الحديث والمعاصر الأدبية والفكرية، هنا تكمن أهمية بيكاسو، ليست في المعطيات الجمالية وإنما في معطيات، عصر تنامي الرأسمالية وما رافقها من أنساق اجتماعية جديدة  فرضتها علاقات الإنتاج التي أفضت إلى آلهة جديدة ( الرأسمالي، الآلة، السلعة، السوق )، والذي تمت فيه القطيعة مع الله، و كانت أعمال بيكاسو  رسائل  على شكل نبؤة  لما سيحل في العالم  وانهيار الإنسان فيه، في أخطر مقوضات الحياة، ألا وهو الاغتراب، لقد استوعب بيكاسو كل طروحات نيتشه الارتيابية وكذلك الجدل الهيجلي وسلط الضوء لعملية  تأطير الله ضمن ملكة العقل لعمانؤيل كانت، مستنداً على اكتشافات عصر الأنوار ونظرية التطور لداروين  مقترباً  من ماركس وأطروحات  الإنتاج وعلاقاته، ونبؤته الحتمية بفوضى الإنتاج، وفوضى الأخلاق  كإحدى  المحصلات  لهذه. الفوضى، كل هذه الفلسفات، والنظريات وما رافقها من تغيرات جوهرية في العلاقات الاجتماعية، والمفاصل الأدبية المهمة مثل الأرض اليباب. لـ إليوت  وعوليس  لجميس جويس، عبر عنها بيكاسو في أعماله ، فاللوحة  الفنية، هي عبارة عن خطاب، يتوفر فيه الإسناد والهوية، وهما وظيفتي الخطاب، لذلك يفضي إلى معنى، وكل لوحات  بيكاسو  موضوعاتها تمثل  واقعة  وبالتالي فائض معنى، في الحقيقة  أعطت كل أعمال بيكاسو معنى، عن الحداثة وما بعدها. وامتازت لوحة الجرنيكا. بفائض المعنى  لتكون أهم لوحة في تاريخ الفن، إذ عملت كخطاب تأويلي عمل على تحشيد الرأي العام بالضد من النازية والفاشية  ودكتاتورية فرانكو  بالإضافة إلى التوثيق التأريخي بطريقة ميثولوجية، كما عملت لوحته آنسات أفنيون ولكن ليس بقدر الجرنيكا، إذاً من قتل فكرة  الله؟ و المؤسسات  التي انبثقت من الأديان الكبرى، اليهودية والمسيحية الراعية للسلطة السياسية والفنون والأدب والفكر بمجمله لقرون طويلة.
لقد عمل كلٍ من ديكارت، وفق الكوجيتو (أنا أشك إذن  أنا موجود)، ومارتن لوثر بحركته الإصلاحية وهيجل في روح التاريخ، ولحقه هوسرل لينتزعوا الروح الإلهية من الميتافيزقيا، وكذلك عمانؤيل كانت  على تقييد الله في العقل المحض، رغم اعتراض نيتشه. الذي اعتبر كانت مجرد لاهوتي بلباس فيلسوف، هؤلاء كلهم  عملوا على وضع الله في أُطر محكمة، ليأتي بعدهم القتلة الحقيقيَّون،وهم، دارون، وفرويد، وماركس، ونيتشه المتطرف بموقفه ضد الإله، وبيكاسو، الناطق الإعلامي لهؤلاء القتلة.
إن انتزاع فكرة الله وهالتها من العقل البشري هي بمثابة، انتزاع الماهية من الإنسانية، لقد شكلت فكرة الله في العقل الوئام، والتصالح للإنسان مع  نفسه ومع الجماعة، والتعايش مع الطبيعة، وتقبل فكرة الموت المفزعة، على اعتبار الحياة الأخرى هي المآل، لذلك عمل الفنان على تفخيم ذلك عمل الفنان على تفخيم الجمال وإضفاء السحر الخلاب في تجسيد الطبيعة، تماشياً مع المنظومات القيمية الجمالية، إلا أن هذا التغيير الدراماتيكي، تم على يد هؤلاء، وأنا شخصياً لمست من متابعتي الحثيثة للفن الحديث  وعلى رأسه بيكاسو، الفنان الأهم  وصاحب الريادة فيه، تاثيرات نيتشه الارتيابية على كل أعمال بيكاسو، وكأني أرى رسالة نيتشه  موجهة بشكل شخصي إلى بيكاسو (الفن هو المهمة الأسمى والنشاط الميتافيزيقي الحقيقي في هذه الحياة)  ولكن أي فن؟ إنه على قاعدة نيتشه، إنه نفي للحياة باسم قيم يفترض أنها تتجاوز الحياة، إنه عمل وهمي وخطر وشاذ، الوقوف بالضد من الله، هو إخماد للروح المقدسة، التي بلورت الضمير الإنساني، عبر تأريخه.

 

تعليق عبر الفيس بوك