هجمة ضد الأراضي الزراعية

د. عبدالله باحجاج

يشعر المرء بالحزن العميق مما يشهده ويُشاهده هذه الأيام في صلالة من تحويل الأراضي الزراعية إلى محلات تجارية ومجمعات سكنية ومحطات للوقود.. حالات جنوح فارقة، بدأت ظاهرة مُلفتة للكل، ومحزنة جدًا، وفيها الكثير من الآلام، خاصة عندما تشاهد الجرافات تقتلع أشجار النخيل والفافاي والموز، وتردي بها جثثاً هامدة على الأرض، تحرق أو تحمل لإلقائها في أمكنة المُخلفات.

هجمة هستيرية ضد أراضينا الزراعية، تحدث بمُوافقة الجهات الحكومية المُختصة، وبمرأى كل الجهات، بما فيه المجتمع، ولا صوت يُرفع احتجاجًا أو نصحًا، الكل يعيش لحظته، والآنية منها، لا يعنيه ماذا سيحدث غدًا، الأهم عندهم اللحظة، والنفعية الذاتية منها، لن يهمه بما وراء يومه، تحت طغيان اتجاه الكسب المالي السريع، فمن يحمي أراضينا الزراعية من حالة اللاوعي التي تشهدها مرحلتنا الراهنة؟ التساؤل يطرح في ظل موافقة الجهات الحكومية على تحويل استخدام هذه الأراضي الزراعية إلى تجارية وسكنية ومحطات للوقود، فهل تفتقد أراضينا الزراعية لقانون الحماية؟ وإذا كان موجودا، هل هو رادع أم مرن؟ أو لا يوجد أصلاً قانون، وتظل المسألة رهينة الرغبات والمصالح المتبادلة، والواسطات، هناك متنفذون كثر تمكنوا من الحصول على موافقات رسمية لتحويل الأراضي الزراعية إلى تجارية وسكنية، وآخرون يصارعون بكل قواهم الظاهرة والخفية للحصول على مثل هذه الموافقات، والقائمة طويلة، فماذا يقف وراء هذه الأخطاء التاريخية؟

نمطية حياتنا الاجتماعية الجديدة قد أصبحت تجنح نحو تكريس مسارات الماديات الجامدة، والمعيارية، وبضغوطات معيشية عميقة، وهذا يعني أننا نؤسس لمرحلة اجتماعية جديدة، تآكل الحاضر – الأراضي الزراعية – والقيم الفوقية للمجتمع، وكل الظروف والمعطيات التي تنتجها عملية التحولات الاقتصادية في بلادنا منذ منتصف عام 2014، تُساعد على تأصيل هذا التأسيس، ما لم تستدرك مؤسسات الدولة الحكومية والرسمية هذه المسألة، وتعمل بوعي المراحل على الحفاظ والدفاع عن أخضرنا وقيمنا لإحداث التوازن بين متطلبات التحولات الضرورية وثوابت ومصالح البلاد الدائمة، فمرحلة التحولات جارفة، فلابد من إعمال العقل والذكاء حتى نؤسس مرحلتنا المقبلة وفق الحفاظ على الثوابت والمصالح العليا.

معظم هذه الأراضي الزراعية، إن لم يكن جميعها، كانت في الأصل أراضٍ زراعية ملكاً الدولة، حولت ملكيتها إلى آخرين، والقلة منهم لا يزالون فيها، منحت لهم على أساس الاستخدام الزراعي فقط، ثم ملكوها بعد أن زرعوها نسبة (%70) كما يشترط القانون، فكيف تسمح السلطات المختصة لهم بتحويل غرضها الزراعي إلى تجاري خالص أو سكني خالص؟ والحالة الهستيرية تشمل حتى الأراضي الزراعية في سهل صلالة، وليس فقط خارجه، وكل من يزورها يرى كيف كان واقعها، وكيف تتحول الآن، سيعتصر قلبه من الآلام عندما يشاهد أراضينا الزراعية المثمرة بأشجار النارجيل والفافاي والموز، تقام على أنقاضها مجمعات تجارية وسكنية ومحطات للوقود. وإقامة المراكز التجارية ومحطات الوقود تتم بصورة غير مدروسة، فهناك مزارع متقابلة أو قريبة من بعضها قد سوي بها الأرض، وتقام عليها حالياً مراكز تجارية كبيرة ومجمعات سكنية متنافسة في ظل سوق محدود الكثافة السكانية، وفي ظل موجة مقبلة من ارتفاع الأسعار بسبب ارتفاع الرسوم والضرائب، خاصة ضريبة القيمة المضافة العام المقبل، فأين التخطيط العقلاني في توزيع هذه المراكز؟ وأية حكمة ومصلحة عامة ومستدامة، يمكن أن تقنعنا السلطة المحلية بها حتى نسلم بالإعدام النهائي لهذه الأراضي الزراعية؟

لن نلقي بالتبعية على المُنتفعين، لأنَّ هذه حالة بشرية، وجنوحها متوقع في عصر انفجار الماديات، وإنما العتب كل العتب، على الفاعلين الذين وقعوا على قرار الإعدام، فهذه الأراضي الزراعية أمانة يتحملون مسؤوليتها التاريخية، وبالتالي، علينا أن نتساءل عن اللجنة الرباعية الوزارية التي تشكلت للحفاظ على الأراضي الزراعية في النجد، كيف يمكن أن نفسر حرصها على أراضي الدولة الزراعية في هذه المنطقة الصحراوية، وتترك هذه الأراضي الزراعية في صلالة؟ وهذه اللجنة تمثلها وزارات معنية مباشرة بهذه القضية، وهي، وزير الدولة ومحافظ ظفار، ووزير الزراعة والثروة السمكية ووزير البلديات الإقليمية وموارد المياه ووزير الإسكان، فمن مُسمياتها ينكشف لنا تبعات المسؤولية لكل جهة منها، وهي - جميعها أو معظمها - تقف وراء هذا التحول التاريخي للأرض في صلالة، فمن يعطيها الحق في إصدار مثل هذه القرارات المصيرية؟

قد يتحججون بمشكلة المياه، وملوحتها، وهي ليست حجة كافية لإصدار حكم الإعدام عليها أبدًا، فبقائها في وضعها الحالي، له فوائد كبيرة على اقتصادنا العماني، ليس سياحيًا فقط، وإنما على صعيد أمننا الغذائي، فلو ظلت هذه الأراضي الزراعية على أشجار النارجيل والموز والفافاي فقط فقط فقط .. لكان ذلك مدعاة لبقائها الضروري، ولمصلحة مُستقبل بلادنا، علمًا بأنَّ هذه الأشجار لا تحتاج للكثير من المياه، وتعيش على المياه حتى لو تداخلت معها الملوحة، ولنا في مثل أشجار النارجيل على شاطئ صلالة مثال، فكيف يتجرأ القلم على توقيع قرار الإعدام؟ كيف يتجرأ القلم على اغتيال أشجار النارجيل وهي قديمة قدم الأرض نفسها. وسنُبين في مقال مقبل خاص بها، كيف كانت نخلة النارجيل لوحدها، تشكل سلة غذائنا قديمًا، فكيف نضحي بها وبالأرض التي رعتها تاريخيًا، واحتضنتها عبر العصور القديمة؟ كيف نضحي بها ومستقبل الأيام تحمل في طياتها صراعات وحروب وأزمات غذائية؟. من يحاسب من؟ جدلية هذا التساؤل القديم/ الجديد، يُطرح الآن بصوت مرتفع في ظل التحولات الاقتصادية الكبرى التي تشهدها بلادنا، فالقرارات الفردانية والأحادية والسريعة التي تصاحب هذه التحولات، قد أصبحت تمس جوهر ثوابتنا الوطنية الاجتماعية والاقتصادية دون دراسة نتائجها أو تداعياتها، وهنا، نتساءل عن دور المجلس البلدي في محافظة ظفار في هذه القضية؟ فمن الغايات الكبرى من إنشائه، أنه يمثل عقل المجتمع المحلي للدفاع عن الديمومات والمصالح الإستراتيجية، فهذه الأراضي الزراعية هي حق للأجيال، وضمانة أمنها الغذائي، لا يملك الفرد سواء كان هنا مسؤولا أو مالكها، إعدامها بقرارات فردانية وسريعة جداً، والقرارات السريعة، والفردانية، تبدو أنها ظاهرة تصطبغ بها مرحلتنا المحلية، فهل هي كذلك على صعيد الوطن؟ وإذا لم يقم المجلس البلدي بدوره في هذه القضية، فهل ينبغي على أعضاء مجلس الشورى التفرج؟ نطرح التساؤل الأخير في ظل تداخل الصلاحيات وتضاربها بين المجلسين، ومعها يظل لأعضاء الشورى مسؤولية مباشرة في هذه القضية، وحتى لو كانت هناك هندسية دقيقة للصلاحيات بين المجلسين، فإنَّ دورهم لن يسقط، فهم يمثلون نخباً مزدوجة وطنية ومحلية، ولا يمكن أن يظلوا شهود عيان على تنفيذ حكم إعدام تنقصه أدنى الأدلة.

وفي هذه القضية، بدأت لنا معها أشجار النارجيل والفافاي والموز التي تشتهر بها بلادنا وبالذات محافظة ظفار دون غيرها من سائر دول المنطقة، فوق تفكيرنا، وعبئا ثقيلا علينا، في وقت تفتح لغيرنا مصدر دخل مستدام، ووسيلة ناجعة في تحسين المستويات المعيشية– سنوضح ذلك في مقالنا المقبل – في ضوء تجارب دول حديثة، كما سنستكمل مقال اليوم من منظور الضرورات التشريعية العاجلة التي يجب أن تحمي مستقبلنا في كل مناحي حياتنا والزراعية خاصة.