القيم الجمالية في "أخشاب تتهيأ للملكوت" (1)

عبد الجواد خفاجي - ناقد وروائي مصريّ

 

             في تجربة تتسم بالرهافة التعبيرية، والدقة اللغوية ، والمجاز القائم على أنسنة الأخشاب تأتي تجربة "محمد عبدالحميد توفيق" في ديوانه "سيرة أخشاب تتهيأ للملكوت" لتعيد للأخشاب مكانتها في الطبيعة والحياة ليس بوصفها شيئاً ولكن بوصفها فاعلاً ومحركاً لقيم إنسانية وجمالية مفتقدة في الحياة الإنسانية، ولعل الأنسنة هنا تعني تحول الأخشاب عن وضعيتها الشيئية لتصبح ذاتاً كونية لها فعالية حركية وشعورية وذوقية وقيمية بالكيفية التي تجعلها ذاتاً لها مشيئة تسمح لها بأداء دور إنساني يفتقده الإنسان ذاته أو يعجز عنه أو يتجاهله.
ولعل العنوان جاء من الدقة التي تنبئ عن الحِرفيَّة في اختيار بوابة مناسبة للدخول إلى النص ؛ فالتجربة تضمنت "السِيَريَّة" التي يعد السرد والتأريخ آليتين من آليات تجسُّدها. كما تضمنت "الأخشاب" كثابت موضوعاتي (تيماتي) تنبني التجربة من خلال أنسنته، وتتبع سيرته ودوره في الوجود . كما تضمنت "التهيؤ للملكوت" بمعنى حركة الأخشاب من خلال فعالية المجاز لتخشَّ بحميمية في تشكلاتها الوجودية كفاعل رئيس في هذه الحياة يتفوق على الإنسان روعة وفائدة وامتثالا للحياة واشتراطاتها، ليس بوصفها حياة تَمتّ إلى واقع الإنسان البليد الشرير القبيح المتصادم مع الحياة، ولكن بوصفها حياة تتسم بكثير من الجمالية والمثالية والنقاء. ولذلك يبدو وجود الأشجار والأخشاب في الطبيعة جوهريا لحفظ الحياة ليس لأنها تمدنا بالأكسجين الضروري لحياتنا، وليس لأن الإنسان يتخذ منها أدواته، ولكن لأنها تمدنا بقيم الحق والخير والجمال، ولذلك عندما انشقت الأغصان عنا، أو بالمعني خلقنا شقاقاً بيننا وبينها بدأ الطبيعة نفسها تحث الإنسان على إعادة ضبط هذه العلاقة، بالمحافظة على الأشجار أولا ، ثم التخلق بأخلاقها، وكأن الطبيعة تحثنا على ما يجب أن نفعله لنحافظ على قيمنا الإنسانية: " وتصيح الجبال: / طوبى لمن غرس شجرة / طوبى لمن صادق الأخضر / طوبى لمن روحه شفيفة كجميزة/ ورأسه شامخ كخلة / وقلبه محب كنعناعة / ويده طيبة كخوخة / وعاشق للحياة كزيتون" ( ص 53)

وسنتوقف في دراستنا للقيم الرؤيوية عند الأنسة كملمح رئيس ساههم في التمهيد لتشكل ملامح الرؤية ، كما سنتوقف عند تشكلات الرؤية وموجهاتها، وأخيراً سنتوقف عند السيرية بوصفها ملمحاً يتعلق بالجانب الرؤيوي لما له من صلة مباشرة بأصالة التجربة وتجذر الرؤية .


الأنسنة:
 ولنا أن نتوقف عند ملامح هذه الأنسنة في اتجاهين أولهما تشكيل وضعية الأشجار في الإطار المجازي الذي يعطيها وضعيه الذات عالية الإنسانية والروعة، وهي وضعية مؤهلة للاتجاه الثاني للأنسة وهو تقديم الأخشاب كشاهد تاريخي على سوء الإنسان وقبحه، ومن خلال الاتجاهين ستتضح لنا ممهدات أولى لرؤية الشاعر بأبعادها الفلسفية والجمالية والمثالية والرومانتيكية.

أولا: تشكيل وضعية الأشجار:
اعتمدت أنسنة الأشجار على آلية مجازية تباعد بين الأخشاب والتشيؤ ، لتدخل في علاقات الوجود مع الإنسان الذي يستخدمها ويستفيد منها، ومع الذات الشاعرة على الأخص ، وفي الحالتين كانت العلاقات متسمة بالحميمية والإنسانية والرومانسية الشفيفة التي تكشف عن روح شجرية توَّاقة إلى معانقة الوجود ومحملة بمشاعر حب تجتاز المحددات النفعية التي يعرفها الإنسان، وهي روح موجودة في الحياة يُعاد اكتشافها نصوصياً من خلال تجربة شعرية لا تتبرأ من الرومانسية ولا من الفلسفة، ومن خلال ذات شاعرة فارَّة إلى معانقة ممكنات جمالية في الوجود.
فالشجرة ليست مجرد شيء بليد أصم يطرح ثماره ويقدم أخشابه كأدوات للإنسان، بل هو ذات تحنو على الفقراء ، كما تحنو على الأموات فوق نعوش أخشابها، وهي من أجل هذا تضاجع الأرض لتحافظ على أسباب بقائها وليكون فعلها مرتبطاً بغريزة تجتاز بها تشيؤها، مثلما نقرأ في نص "مضاجعة" : " الشجرة تضاجع الأرض / وتُفرغ شهوتها في فم الفقراء / ثماراً / وتلعق شفاه الموتى / فتنتفض أعضاؤهم ليضاجعوا الملائكة " (ص 7)
وضد التشيؤ تبدو الأشجار مدافعة عن الشاعرية وعن حقوق الإنسان في الحرية ضد الطغاة، كما نقرأ في نص "ثورة خشبية" : "احتشدت الأشجار / دفاعاً عن الشاعر/ السنطة تمنت أن تصبح مشنقة للطاغية / الصفصافة تحولت إلى بندقية في يد ثائر / شجرة التفاح / أطلقت عصافيرها / لتغني للقصيدة" ( ص22)
    وفي نص "نعش طيب" يسير النص بالأشجار ضد التشيؤ مؤكداً علي وضعيتها كذات طيبة تجود وتحنو على الذات الشاعرة من المهد إلى اللحد في حيميمة بالغة : "طيبة جداً / تحمَّلتْ شقاوتي صغيراً/ وضحكت لمرحي حول جذعها/ وأطعمتني ثماراً لذيذة/ وسط الحصص/ وجادت بروحها لتدفئني في وحشة الشتاء/ وابتهجت حينما أسندت كراستي على وجهها/ لأخطّ حروفي الأول/ طيبة جداً/ ناحت على روحي/ كثيراً/ وهمي تحملني إلى قبري" (ص 10)
وفي نص "ساقية" تجتاز الأخشاب التي تتشكل منها الساقية ـ وضعيتها الشيئية كأداة لرفع المياه إلي ذات تأمل وتغني وتتعب وتستريح لتستأنف دورانها، وهي تفكر في مستقبل الحياة حولها، ذات مفعمة بالأمل وهي تنتظر نمو الأشجار حولها، وهي تَهشُّ في وجه المساكين والعصافير، غير أنها تمارس الغناء لتزجي عن الفلاح شقاءه وتلهيه عن عذاباته : " ارتاحت الساقية قليلاً/ وعاودت دورتها.. / وقالت: / لا بأس غداً تكبر الأشجار / وتطعم المساكين / وتصبح واحة للعصافير / الساقية المتعبة / عانقت يد الفلاح/ وغنت معه" ( ص 14)
الأبواب الخشبية تجتاز تشيؤها إلى وجود شعري يشهد ميلاد قصائد الشاعر ويطرب لها، ويعاود سيرته الشجرية الأولى، ولتتأكد بين الشاعر والباب الخشبي علاقة جمالية روحية ، حتى أنه وفي حال اغتراب الشاعر تعود إلى الباب روحه ويعاود سيرته الأولى بمجرد سماع قصائد الشاعر: " إذا باعدت المسافات بيني وبينكم / فرتلوا قصيدتي على أبواب بيتي / يعود سيرته الأولى / تفاحة عامرة بالزقزقة / وغنُّوا مع صريره أناشيدي / التي أكلتها الصحراء" ( ص 18). إن استدعاء الصرير مع الغناء والأناشيد يؤكد حضور الباب كذات ممتجاوبة مع أصداء الموسيقى الشعرية ، وهذا يشير إلى الممكنات التي ينفذ منها الشاعر لإضفاء قيم جمالية تباعد بين الأخشاب والتشيؤ وتؤكد حضورها كذوات لها ذائقة مساهمة بقدر كبير في إهداء الجمال للوجود.
النخلة العجوز أيضاً رغم وحدتها وغربتها وهي تقف على شريط السكة الحديد ، تجتاز تشيؤها إلى وجود ذاتي يمارس الحنو على الصبية ، وهو يهديهم التمر والجريد ليكون أسِـرِّة ينامون عليها، بل وهي تبدو مشفقة على مستقبلهم الذي يتراءى لها مسيَّجا بالغربة والوجع والآهات والألم ولذلك هي تدعوهم للإقتداء بها في الصبر والصمود والتحمل: "كم أهة أحرقت جذعها / النخلة العجوز تألمت لصبية / أدمتهم أشواكها وهم يلعبون تحتها / ربتت عليهم / يا أبنائي: / كلوا من عسلي/ وناموا على سريري واستعدو لتقفوا مكاني" ( ص 21)

ثانيا: الأشجار كشاهد تاريخي:
 وضعية الأشجار ـ على نحو ما سلف ـ ليست استثنائية في هذه الحياة، وما أضحت حياة الإنسان سيئة كطبعه إلا عندما هجر مدرسة الأشجار، هي وضعية ظهرت بالكيفية التي يتنحى الإنسان أمامها أوبالكيفية التي تنحيِّه بها التجربة عن صدارة الحياة بوصفه أنموذجاً لإفساد الحياة وترويع هدوئها وتلويث صفائها وكأنموذج للغدر والخيانة والشر، يترصد الشجريين.
 الإنسان الذي يدعي الحقيقة رغم أنه الأحدث في الوجود، يبدو مدعياً أمام عراقة الأخشاب في الكون، هنا تتحول الأخشاب إلى شاهد إدانة على ادعاء الإنسان وكلعنة ساخرة تطارد تبجح العقل الإنسان المغتر بنفسه عندما يدعى امتلاك الحقيقة : " منذ الأزل / وجريد النخل العالي في حيرة من أمره / بعضهم اتخذه سقف بيتٍ يصلي فيه خمساً / وأخرون  جعلوه عريشة تدق فيها النواقيس / وعند حائط المبكى نصبوه كشواهد القبور / منذ الأزل وجريد النخل العالي/ في حيرة / ويرهقه السؤال القديم: / من منكم يمتلك الحقيقة" ( ص 57)
هكذا تتحول الأخشاب إلى ثابت كوني يشهد على جناية الإنسان ضد نفسه على المستوى الاعتقادي على الأقل.
من جهة أخرى تتحول الأشجار إلى ثابت كوني تشهد على تحول قيم الإنسان الجمالية والإنسانية وهو يرتمي في إحضان الصنعة ويُخْلص لها مستعيضاً عن الحقيقي باللاحقيقي ومتحولا عن الطبيعي والفطري إلى المُصَنَّع وعلى النحو الذي يجسده نص " ضد الطبيعة" متقاطعاً مع فلسفات الجماليين والطبيعيين الذين يرون المدنية والحضارة والصنعة مفسدة لطبيعة الإنسان وعلى رأسهم جان جاك روسو ، يقول النص: " شجرة بلاستيكية / وامرأة من السليكون / تتيهان فخراً / الشجرة قالت: / جذعي أملس / وأوراقي مضيئة / ولا أعان حرًّا ولا برداً / ولا تزعجني رائحة الفلاحين / المرأة قالت صدري مثالي/ وعجيزتي بالمقاس / ولا أعاني حَملاً ولا ولادة / ضحكت شجرة الصفصاف وقالت: / يا لتني متُّ قبل هذا !!" ( ص54)
من جهة ثالثة تتحول الأخشاب إلى شاهد كوني على ظلم الإنسان لأخيه الإنسان، عندما يحجر على حقه الطبيعي من الطبيعة التي تمثل الأشجار أساساً فيها: ف" شجرة المانجو / هل تعرف أن ثمارها مذهلة؟ / فيما تشتهيها ملائكة / وتنظر إليها على استحياء / بعد تحسس جيوبها؟!" (ص42) وفي نفس السياق أيضاً: " كلنا إلى زوال / أنا وشجرة الخوخ / التي حرمنا منها جدي لأنه يكره أبي" ( ص 46)
الأشجار تقوم كشاهد أيضاً على قبح الإنسان ونفاقه وتناقضه وخبثة وتفننه في الشر: كما يشى بذلك نص "خشبة مسمَّمة: "الخشبة صامتة / من المؤكد أنها تسمَّمت / من عظات الشياطين / كم وقف عليها أفاقون / يبشرون وينذرون / وهم ضالعون في الخديعة / لعنة الأخشاب / على الشياطين / والأصنام المتراصة خلفهم" ( ص8) وفي "شجرة موسى" شاهد أخر على فداحة الشر عندما نضطر لحرق الأشجار لفض النزاع حولها: " لكني معذب بالندم / أنا الذي أحرقت قلبك / ورغم ثلاثين عاماً على جريمتي / لا تزال الكوابيث تداهمني / وتتسلق أغصانك / يفزعني صوتك: / قم يا مانع الخير عن السماكين / حبيبتي .. / لم أولد مجرماً / لكني أردت نزع فتيل الحرب على كنوزك" ( ص27)
الأشجار أيضاً  تقوم كشاهد تاريخي على تزييف الإنسان للحقائق ، ومتاجرته بالقضايا الفكرية والإنسانية وهو ينافق ويدلس بشكل فج على الصفحات البيضاء .. الأشجار  التي استخلص الإنسان من أخشابها يرراعته كأداة للكتابة يمكن أن تقدم شهادتها التاريخية  على سوء هذا الإنسان ومجفاته للحق والحقيقية بمخالفة للضمير الإنساني ، ولهذا هي تشكر التكنولوجيا التي عفتها من هذه المهمة المؤلمة لها: "شكرا للتكنولوجيا / هكذا قالت الشجرة / لقد رحمتني من أنامل الكاذبين / كم زيفوا بواسطتي الحقائق / وسوَّدوا صفحاتٍ ناصعة / بحروف الخيانة/ آه لو يتركوني فقط / ألون وردة برئية / في  حصص الصغار" ( ص 20)

 

تعليق عبر الفيس بوك