حاتم الطائي
≥ الشراكة المجتمعية المفتاح المستقبلي للتقدم.. وتفعيلها يتطلب تحديد مسارات واضحة للمنخرطين فيها
≥ نعيش مرحلة "الأولوية للاقتصاد" ونحتاج تجسيرًا للمسافات بين الرغبة في الفعل ومسؤولية أدائه بأمانة
≥ الحكومة لا تملك عصا سحرية لحل المشكلات وتوفير المتطلبات بين ليلة وضحاها.. والبديل شراكة مجتمعية
≥ القطاع الخاص بحاجة للانتقال من مرحلة الدفاع عن الذات إلى المبادرة الذاتية
≥ تنشيط المؤسسات الصغيرة والمتوسطة كذراع إنتاجي فاعل ضروري لإحداث زخم في الأعمال الداعمة للاقتصاد
≥ أي تنمية تقوم على الشراكة وتضافر الجهود تحتاج فضًّا للاشتباك الحاصل في المسؤوليات
نعيشُ اليوم مرحلةً جديدة، يتلاشى فيها الاعتقاد القديم بمسؤولية الحكومة وحدها عن عملية التنمية؛ إذ من البديهي أنَّ أيَّ عملية تستهدفُ الجميع، تستلزم مشاركة هذا الجميع في صُنعِها والتفاعل مع أهدافها.. وعندما أقول الجميع، فإنني أقصدُ مُشاركة الكل؛ بدءًا من الفردِ، مُرورا بالمجتمع المدني ومؤسسات القطاع الخاص، وليس انتهاءً بالقطاع الحكومي؛ إذ للكل دور ومُهمة، ضِمن حلقات تكاملية يدعم بعضُها البعضَ الآخر.
فأبجديات الإنجاز العُماني، وتفاصيل المشهد التنموي، لم يعُد فيها لجُملة "الدور الأوحد للحكومة" محلًا للإعراب؛ بل لا يمكن أن تقبل أي عقلية مُنْصِفة فكرة استمرارية امتلاكها العَصَا السحرية لحل المشكلات وتوفير المتطلبات بَيْن ليلة وضحاها.. صحيح أنَّ الحكومة كفاعلٍ ومنظِّمٍ أساسيٍّ هي المحرك الرئيسي للتنمية -من مُنطلق مسؤولية تقدم ورفعة الوطن، والارتقاء بالمواطن- إلا أن واقعية الطَّرْحِ -ومن ثمَّ الحال التي يُقدَّم فيها هذا الطرح- تستوعبُ انحسارَ تلك الوِصَاية الأبوية للحكومة، لصالح تفعيل مفهوم "الشراكة المجتمعية"، وذلك من جهتين رئيسيتين؛ أولاهما: أن ذلك الدور الأبوي -كما سبق وأشرت إليه في أكثر من موضع- كان له ما يُبرره في السابق مع انطلاق مسيرة البناء النهضوي الأولى، والثاني: أنَّ ما عكفت الحكومة على تحقيقه طوال ثمانية وأربعين عامًا من أجل تهيئة البيئة المناسبة أمام مختلف فئات المجتمع وتهيئة كل المعينات الممكِّنة، ووسائل التأهيل والتمكين، لاضطلاعها جميعاً بدورها المأمول، يضعنا أمام مسؤولياتنا لتجذير مضامين هذا المفهوم ليس في العُمق التنموي فحسب، بل ومن قبله العمق الاجتماعي القائم على علاقات وثيقة يشتركُ فيها الأطراف الأربعة: الحكومة، والمجتمع المدني، والقطاع الخاص، والمواطن المسؤول. وتضافُر جهود هذه الأطراف معًا، ضمانة أساسية لتحقيق الامتياز في العمل النهضوي.
ولذلك ينبغي أن يخرج تقسيم هذه الأطراف الأربعة عن الارتباط القاصر لمفهوم "الشراكة" في الوعي الجمعي -باعتباره مجرد مسؤولية ثنائية بين الحكومة والقطاع الخاص- ليصل إلى كينونته الحقيقية كمفهومُ من الضروري أن تُكرَّس الجُهود لتوضيحه، ووضع الخطط والآليات التي تكفلُ تفعيله فِي واقعنا التنموي. وفي رأيي، أنَّ المدخل السليم لإرساءِ أسسِ هذا المفهوم، هو تجاوز ما عهِدناه من اتكالية مُفرطة على الحكومة في كل شيء، وتبني رُؤية واضحة لجعل "الشراكة" منهجًا وأسلوبَ حياة. وإلى حين تحقُّق ذلك كليًّا، يبقى التأكيد على أن مثل هذه الشراكة لا يُمكن أن تتحقق دون تحديد مسارات واضحة لمهام اللاعبين المنخرطين فيها، تتحدَّد وفقها آلية جمع هذه الأدوار بطريقة تلبِّي حاجات الجميع ومصالحهم، وتسدُّ ما يُمكن أن نسميه "الثغرة المعرفية" الفاصلة بين "المسؤولية" و"الرغبة" الجمعية للعمل معاً من أجل تحقيق نفس النتائج.
وعلى هذا.. فإنَّه ولكي تُثمر تلك الشراكة الحقيقية نتائجَ بنَّاءة؛ فإنه يجب ابتداءً تحديد أهدافها وآلياتها بشكل واضح، وثانيًا: العمل على مزيدٍ من التمكين للأطراف الأربعة، وإتاحة الفرصة لها عبر علاقات تكاملية مُتبادلة، وإجراء مراجعات دورية لتقييم الحاصل منها أو التغذية الراجعة عنها؛ من أجل الانتقال بها إلى طورٍ مُوَاكبٍ، يكفلُ نُضجَ المردودِ التنموي، وتعظيم العائد على جميع الأطراف؛ باعتبارها -أي الشراكة- هي المفتاح المستقبلي للتقدُّم.
... إن تضافر الجهود كعُنوان للمرحلة، هو التطبيق العملي لنهج الشراكة والالتزام المجتمعي. فالحمدلله، نحن نتحدث اليوم عن وفرة في الإستراتيجيات والخطط الهادفة للتنويع والتطوير، بيد أنه وبدون ربط النظرية بمُعَادلتِها ليتحقَّق التطبيق، سيظل النجاح المتحقَّق منقُوصًا، وخطوط الاتصال بين الفاعلين المعنيين شبه مبتورة، وهو ما يقلل حجم الإفادات من جهود تُبذل من الجميع ولكنْ كلٌّ منها على حدة؛ فالتنسيق والتكامل، والتعاون والتلاحم، وبناء جسور من العلاقات والثقافات والمفاهيم المشتركة والتبادلية، من أجل بناء شراكات قوية وفاعلة بين الجميع، هي الأساس الأول لاستفادة كُبرى من الجهود والإسهامات المبذولة هنا وهناك؛ أعلاها على الإطلاق تحويل أبناء المجتمع إلى قوة منتجة.
وعلى عكس المترسِّخ، فإنَّ حديثًا كهذا يفضي ابتداءً إلى المواطن كحجر أساس.. وعندما أقول المُواطن، فإنني أعني المواطن المسؤول، الواعي بحقوقه وواجباته، والقادر على النهوض بدوره كشريكٍ في التنمية؛ فبقدر ما هو هدفٌ للتنمية هو كذلك صانعٌ لها، ولابد من تمكينه وتسليحه بالمهارات والوعي حتى يكون شريكًا له إسهاماته المقدَّرة في تعظيم الاستفادة من المنجز التنموي، ويكون المحرك الرئيسي للإنجازات النهضوية، فالمسؤول وصاحب المؤسسة والموظف والعامل والمنضون تحت مظلة المجتمع المدني، كلهم في الأساس مُواطنون، وتأهيلهم هو العامل المشترك في العلاقة بين الأطراف الأربعة.
وكي تنجح فكرة "الشراكة المجتمعية" التي أساسها هذا الإنسان، يتوجب في المقابل الاهتمام بالبحوث والدراسات الميدانية التي ترصد احتياجات المجتمع، وتحدد المناطق الأكثر احتياجاً، وتقترح المشاريع والمبادرات الأنسب، مع ضمان التفاعل الإيجابي من وسائل الإعلام ومنظمات المجتمع المدني، والقطاعات الحكومية، والتكامل مع منشآت القطاع الخاص، ودمج فئات المجتمع فعليًّا لإحداث شراكة حقيقية وفق إستراتيجيات عمل واضحة. وباعتبار المرحلة تتسم بأولويات اقتصادية، فغنيٌّ عن القول أنَّ التوجه لتبنِّي اقتصادَ المعرفة يستدعي فتحَ آفاق جديدة للنمو والاستدامة، فضلًا عن الفوائد المواكبة الأخرى كتوفير الوظائف وتعزيز التنافسية... وغيرها من مفردات تقوِّي الاقتصاد، وتدعم بنيته وقدرته على مواجهة التحديات، وبلورة نموذج إنساني رائد لتنمية مستدامة.
وتاليًا.. وإذا كان قطاعنا الخاص قد حقق نموًّا خلال العقود الأربعة الماضية عبر شراكته مع الحكومة، فإننا اليوم وكأحد أكثر إشكالات هذه الشراكة إلحاحًا، بحاجة لمزيدٍ من التمكين لهذا القطاع الحيوي، والمراهنة عليه مُستقبلا لخلق وفورات وظيفية جديدة، خصوصاً وأن طريق تعميق هذا القطاع ليأخذ دور الشريك، لا تزال تكتنفه بعضُ الصعاب؛ سواءً ما تعلق منها ببيروقراطية الأداء وانتشار ثقافة التسويف والاتكالية التي لا تُثمِّن عامل الوقت، لدرجة نصل معها إلى أن البدء في مشروعٍ ما قد يتطلب عامًا من المراجعات للحُصول على التراخيص اللازمة، أو ما تعلَّق بمهام الحكومة لتقوية القطاع؛ والانتقال به من مرحلة الدفاع عن دَوْرِه -التي يعيشها حاليًا- إلى مرحلة نوعية جديدة تقوم على الابتكار والإبداع والتنويع في الاستثمار؛ من منطلق روح المبادرة الذاتية، بعيدًا عن منطق "افعل ولا تفعل" الذي يُعرقل تمدُّدَه الأفقي والعمودي.
وكخطوة تشاركية أخرى، بين الحكومة -بالتعريف والتوعية- والقطاع الخاص -بالفعل والمبادرة- تبرز ضرورة العمل على تغيير الصورة النمطية السائدة عن القطاع الخاص في أذهان البعض، لتعميق الشراكة وتحويل العقبات إلى تحديات تسفر مجابهتها عن إيجاد فرص للمزيد من الازدهار والتقدم؛ فحكومتنا مطالبة بالإصغاء للقطاع الخاص باعتباره شريكًا، وإيجاد مساحة حوار يغوص عميقًا في كيفية تذليل الصعاب ليستطيع الأخير فيها القيام بدوره التنموي الرائد على أكمل وجه، وخلق مزيد من الشراكات في جميع القطاعات، وعلى مختلف المستويات؛ لما في ذلك من استثمار للطاقات والموارد لبناء نهضة قوية، وطموحة، قادرة على المنافسة، وتجاوز التحديات، ومواكبة التطلعات الكبيرة لبناء الوطن، وتنشيط قطاع المؤسسات الصغيرة والمتوسطة كذراع إنتاجي فاعل، ومن شأن كل هذا إيجاد زخم من الأعمال والأنشطة الكفيلة بدعم الاقتصاد. والقطاع الخاص هو الآخر، مطالب بمزيد من العمل وتكوين شراكات داخلية تعظِّم الثقة في قدرته على إدارة ملفات التنمية. ولا يفوتني هنا الإشارة لضرورة استثمار ومتابعة تنفيذ التعديلات الجديدة على قانون الاستثمار الأجنبي وإنفاذها على أرض الواقع، ووضع آليات واضحة لجذب رساميل مليارية وضخها في الاقتصاد الوطني؛ استثمارًا لما تزخر به بلادنا من مقومات الموقع الإستراتيجي، والاستقرار السياسي، والقرب من الأسواق العالمية الكبرى.
وما أوردتُه عن القطاع الخاص، يصِحُّ في جانب منه على المجتمع المدني بمشاريعه التطوعية، والذي يُنتظر منه المزيد كأحد عناصر الشراكة الفاعِلة، فيما لو تهيأت له بيئة مواتية تسهِّل إنشاء وتقنين الجمعيات والنقابات والاتحادات، خصوصاً وأن قوام مجتمعنا بالأساس هو العطاء وثقافة المبادرة، وهما لُب العملِ في المجتمع المدني.
ويبقى أن أقول.. إنَّ الشراكة المجتمعية المسؤولة، ونهج تضافر الجهود، بما يهدفان إليه من تحقيق تكاملٍ مجتمعيٍّ ضامنٍ لنهضةٍ وطنيةٍ شاملة، تبتعدُ عن الأهداف الشخصية أو الأمجاد الإعلامية لطرف على حساب الآخر، هي بالأساس عمليةٌ تحتاج فضًّا للاشتباك الحاصل في المسؤوليات، وأنْ يَعِي كل طرف مهامه وواجباته على أساس من الثقة والاحترامِ المتبادل، والحرصِ على التناغم في أداء المهام المشتركة، والمتعلقة بمختلف أمور الشراكة وأُطرِهَا، خدمةً للصالح العام، وتحقيقًا لأعلى قدر مُمكن من الاستفادة من جهود أبناء الوطن ومؤسساته المختلفة؛ كضمانات فاعلة لتحقيق مُعدلات تنموية أكبر على المديات الثلاثة؛ القريب منها، والمتوسط، والبعيد.