نحو "بيريسترويكا" عربية وإسلامية


 

د. يحيى أبوزكريا

 

يبرع العالم الإسلامي في إعادة إنتاج نفس الأخطاء التي كانت السبب في خروجه من دائرة التأثير الحضاري والفكري والسياسي، ولم يتمكّن المُشرفون على الدعوة والإصلاح من الخروج من تأثيرات الطقوس التاريخية والأجواء التاريخية السلبية التي يراد استصحابها على الراهن لتكون قاعدة وعنوانا للتعامل مع الآخر المسلم أو غير المسلم.

والعودة إلى الماضي السلبي والتاريخ الأسود الطائفي والمذهبي حال دون بلورة توجه عقلي معرفي يخطط للمستقبل على قاعدة النهضة يصنعها الجميع وليس طائفة دون أخرى..

وقبل الحديث عما جنته الطائفية والمذهبية على أمتنا لا بأس بالتذكير ببعض البديهيّات في الخطاب الإسلامي والتي يتوافق عليها الجميع، ومنها أنّ الخطاب القرآني – والكل يجمع على قطعية صدوره من المشرّع – موجه بشكل كامل للإنسان، وأهل الإيمان والإسلام، "يا أيها الإنسان"، "يا أيها الذين آمنوا"، ولم تخصص أي طائفة أو ملة أو مذهب بالنداء القرآني، والأصالة للقرآن، والمذاهب تأسست بعد اكتمال الإسلام، فالحجة للقرآن وليس للمذاهب.

ولم يرد في القرآن الكريم ما معناه، يا أيّها الشيعي، يا أيّها السني، يا أيّها المالكي، يا أيّها الحنفي، يا أيها الجعفري، يا أيها الحنبلي، يا أيها الزيدي، يا أيها الشافعي، يا أيها الإسماعيلي، يا أيها الأشعري، يا أيها الظاهري، يا أيها السلفي، يا أيها البهري، وما إلى ذلك من التسميات والمصطلحات التي فاقت الألف كما ورد في كتب الفرق بين الفرق للأسفراييني البغدادي والملل والنحل لابن حزم الأندلسي والملل والنحل للشهرستاني وفرق الشيعة للنوبختي وغيرها.

وكل هذه التسميات ظهرت في المشهد الإسلامي بعد إكتمال نزول الوحي وموت رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم، ومع بداية تأسيس المذاهب والفرق فإنّ كل فرقة أخذت من القرآن ما يقوى موقفها ويشرعن أيديولوجيتها، فهذه الطائفة اعتبرت أنّ هذه الأية تخصها، وأنّ هذا القول النبوي يشير إليها فهي إذن على الحق والبقية في النار، وهكذا دواليك مع كل فرقة، ولم يصبح القرآن قاعدة ينطلق منها لصناعة الإبستمولوجيا الإسلامية والمعرفية الربانية بل أصبح منطلقا للتأكيد على أحقية هذه الفرقة أوتلك، ولذلك فإن كل فرقة تكفّر الفرقة الأخرى بموجب آية قرآنية، وهذه الطائفة تكفّر الفرقة الأخرى بموجب آية أخرى، ويحدث أن هذه الفرقة تفهم مدلول الآية بهذه الطريقة وفرقة أخرى تفهم الآية بطريقة معاكسة تماما..

والواقع أنّ اتهام بعض المفكرين قديمًا وراهنا بالخروج عن النص هو محض ادعاء، لأنّ أول من أهان النص وتجاوزه واستغله لأغراضه الطائفية والمذهبية كانت الفرق وأصحابها، وقد عمق الحديث الذي اعتبره البعض ضعيفا - ستنقسم أمتي إلى ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة – من حالة الشرخ في العالم الإسلامي، وكان الشيخ محمد عبده يقول أصل الحديث كلهم في الجنة إلا واحدة أي طائفة الشرك والتي هي وحدها ستدخل النار.

وقد أدّى الفكر المذهبي البغيض إلى تناحر المسلمين وتقاتلهم وإنعزالهم وكان البعض يفتي بحرمة تزويج من يتبع هذا المذهب وذاك، وهكذا ضاع العقل الإسلامي بالكامل، فمنذ عصر الملل والنحل والشروخ المذهبية كان العقل الإسلامي يتفنن في تبيان حق هذه الطائفة وصوابها، وثغرات الطائفة الأخرى، وسقط العقل الإسلامي في متاهات المذهبية المقيتة، وقصرّ في مجال الإبداع المعرفي في مجالات العلم الأخرى كالسياسة والاقتصاد والفقه وآليات بناء الدول نظريا ومعرفيا، وهذا ما يُفسر مناطق الفراغ الكبيرة جدًا في الفكر الإسلامي اليوم، حيث شعار كثير من الحركات الإسلامية هو إقامة دولة إسلاميّة، وهي لا تعرف كيف تسيّر بلدية، فماذا عن الدولة، بالإضافة إلى النبوغ في ثقافة العناوين والشعارات، الاقتصاد الإسلامي، الفلسفة الإسلامية، الدولة الإسلامية، لكن أين المصاديق الفكرية لمثل هذه العناوين.

ومنذ مئات السنين والنتاج المعرفي الإسلامي قائم على قاعدة: إنّ قالوا قلنا، وإن ذكروا ذكرنا.. والأكثر من ذلك فإنّ بعض الطوائف ترى الحق في معاكسة ما تذهب إليه هذه الطائفة أو تلك، والحق هو العمل بخلاف ما تعمل به تلك الطائفة.

وكان من نتائج المذهبية أنّ القرآن سخرّ لخدمة الطوائف بدل أن يكون قاعدة لإنتاج معرفة لعموم المسلمين، والسنة النبوية أولّت إلى أبعد الحدود، وهناك من يقبل حديثا إسرائيليا – رواه يهودي مشبوه – على رواية رواها محدث من طائفة أخرى، وللإشارة فإنّ اليهود اخترقوا العقل الإسلامي من أيام المدينة المنورة، وأضيف إلى هذين الأمرين تدخل السلطات الأموية والعباسية ووصولا إلى العثمانية والصفوية في إنتاج إسلام وفق الطلب، تماما كالذي نشاهده ونسمعه ونعايشه اليوم: الإسلام السعودي والإسلام الإيراني والإسلام الأوروبي كما يطرحه حفيد حسن البنا طارق رمضان، ولكل إسلامه، والمطلوب ثورة فكرية حقيقية "بيريسترويكا" أو إعادة هيكلة تعيدنا إلى الإسلام الحقيقي، إسلام الوحي، الإسلام الذي نزل على رسول الله والذي يوحد بين جميع المسلمين من طنجة وإلى جاكرتا.