قراءة في نص الشاعرة (سعاد محمد)

إعادة معمارية الأسطورة


جمال قيسي – أديب وناقد من العراق

 

وأنت تتنقل، في محطات الحياة، تستوقفك منها التي تتفاعل معها، تقف بها طويلًا قدر المستطاع، تتمنى أنك لن. تبرحها، والحقيقة لن تغادرك هي، تتلبس ذاكرتك، وقبلها وعيك، لكنك تتأسى على تلك المحطات التي لم تبذل جهدًا، لتستكشف جماليتها، تتأسى لأن اللحظات الجميلة، تمرق نزقة، وعندما تستجمع وعيك في لاحق الأيام، تتمنى لو تسمَّرت تلك اللحظات، ومنها  النصوص المبدعة في الأدب، لأنها  حزمة مشاعر في أعلى توترها الإنساني، نوع من لغة الروح، السامية، تلك اللغة التي لا يتمُّ توثيقها إلا بالأدب، وبالذات الشعر، لحظات الأدب، هي لحظات الإنسانية، في أجمل تجلياتها، روح المغامرة تكتنفك وأنت تزيح الباب عن كهف مسحور، لتستخرج منه كل ما تحلم به، تلك هي بالضبط مايحدث، عندما، تستغور نصًّا  أدبيًّا، مكتنزالمضامين، يتردد في مسامعك نشيد الحياة، نشيد كل الذين مضوا، الذي ينطوي على كل مشاعرهم في سعادتها وآلامها.
فالنص الأدبي هو رؤيا، ونظرة منصفة إلى الحياة، ومساحة من الحرية لإعادة  تشكيلها، بعيدًا عن التشويه الذي أصابها، بفعل الاستغلال، والكره المحايث له، إذًا هو  (الأدب)، العالم نقيٌّ من المساوئ، وبالطبع هذا ينطبق على الأدب في تحقق جوهره الشاعري، وليس الأدب المستعبد من قبل المُستغِل، هذه النصوص النورانية، تسطع لتزيح الظلمات التي تغمرنا، لنستدل الواجهة من خلالها.
ونص (سعاد محمد) مع محمولاته الأسطورية، والعمق الأنثربولوجي، وشفافية جداره الخارجي أشبه بالمشكاة التي تشع بالروح الحضارية البهيجة، مع إن القراءة الأولى والسطحية للنص توهمك بأن النص معتم ومغلق، لكن سرعان ما تكتشف بعد القراءة المتأنية السحر الخلاب في النص.
تعالوا بنا نرحل مع متعة القراءة، في هذا النص  الفخم والجميل
(1 )
منْ يدري كمْ تُخفي الأساطيرُ خلفَ الغلافِ الجميلِ
من مجازرَ شعوريّةٍ وكلماتٍ ضالّةْ؟
الأساطيرُ كالقادةِ..
لا تأبهُ لمنْ تُزهَقُ أمانيهم
خلفَ قلاعِ /المقولةِ المقدّسةِ/
قدْ أفسدَتْ طويتَها شهوةُ الصعودْ
تسوقُ سكانَها بينَ السّطورِ
تشاغلُهمْ بالغنائمِ لِتلهيَهُمْ عن عينِ المعنى
ومنْ يلزَمِ العفافَ على هامشِ احتفاليةِ الصّيدْ
تعشقْهُ الكلماتْ
وتشقِهِ
تعنّفْهُ بتهمةِ ِ بالأنا
ثمَّ ترفعْهُ إلهاً على صليبِ البالِ
مضرجاً بشهقاتِ الإعجا ب
تقتحم (سعاد محمد) بخطابها الشعري، وبسؤال  (من يدري)، متشعب  الغايات، ماذا تخفي الأساطير، خلف عناوينها التي نتداولها، بتندر لتتساءل  بتشكك وريبة، إن  الحقيقة مختلفة لتوحي لنا طالما هناك قصة أسطورية فإنها إن لامست الوقائع، فإنها أهدرت مشاعر وآلام والكثير من الكلمات، لقد تمت تنقيتها بتعسف، هناك أناس، وأرواح، وذوات أقصيت وكذلك  كلماتهم.
كلنا ننظر للأهرامات المصرية على أنها معجزة وكذلك سيرة الفراعنة الذين شيدوها على شكل تداول أسطوري، لكن من يعرف معاناة العمال والعبيد الذين تمَّ استخدامهم في نقل الحجارة ورفعها وكم من هذه الأرواح زهقت في سبيل رغبة خلود حمقاء، وماهي طبيعة هذه  المشاعر التي كانت تعتريهم، وهي ترافق الألم الجسدي والروحي، وكم رافقت حملات يوليوس قيصر من سفح للأرواح، أو حملات الفتح عبر التاريخ، ننظر إلى "أخيل". كونه  بطلا أسطوريا، ولكن لم ننظر إليه كسفاح، ولم نر أو نسمع  نشيج  الألم للمذبوحين، في هذه النقطة  تصرخ بِنَا  (سعاد محمد) باسم الوجع الإساني، إنه صوت الشاعر الحق، ودوره الرؤيوي في هتك الحجب التي تغلف الحقائق المنسية.
هناك حقيقة أخرى دامغة تواجهنا بها (سعاد محمد)، وهي أن الخطاب المهيمن عبر التاريخ، هو خطاب المتسلطين، الذين نسميهم المنتصرين، تشتغل هنا الشاعرة على كسر التابوهات في محاولة للحث على إعادة  قراءة للتاريخ في جوانبه الخفية، إنها تعيد سرد القصة الأسطورية وفق محاكاة النموذج الأصل.

(2)
نرسيس..
 هامَتْ به الأسطورةُ..
وفي الحبَّ يجنحُ الخيالْ
وتتأخّرُ مداركُ الرّغبةِ عن خيولِ الرّوحْ  
هي لمْ تقرأْ بارقَ المجدِ في عينيهِ
اكتفَتْ بما شفَّهُ الصّدى من رسائلِ التّأويلْ
نرسيس لمْ يُسلِّمْ بياضَهُ لعبثِ الجهاتْ
ولا أغواهُ تقلُّبُ الألوانِ على أسرّة ِالرّيحْ
مشى على عمرِهِ كناسكٍ تلبّسَتْهُ فكرةٌ
فتاهَ عن إيماءةِ الحياةِ
لو تحرَّشَ بالغيمِ الّذي استحمَّ في الماءْ..
لما انتخبَتْهُ الأسطورةْ
في هذا المقطع تعيد (سعاد محمد) معمارية الأسطورة من خلال الدفاع عن الأنا، وبتماهي لتفضي إلى خطاب: أن  النقاء الذي يتلبسها لن تنزعه، ستحافظ عليه، وبمعنى آخر إنها لن تتنازل ولن ترضى بتغيير قيمها، لترضي الآخرين؛ حتى  لو سُمِّرت على صليب  الأسطورة   وفق الذين حولوا "نرسيس" إلى حكاية أسطورية، إنه دور الشهيد الذي يبحث المجتمع  عنه في حال بقى الإنسان على قيمه التي لم تتكيف مع الآخرين ولو أن "نرسيس" مجرد إن  تحرش بالغيم المنعكس صورته بماء البحيرة لتغيرت الواجهة، ولأخرجته الأسطورة من قاموسها، إذًا هذه النرجسية تنطوي على أمر آخر، حيث تخبرنا (سعاد محمد) أن  الاكتفاء والرضا بعيدًا عن الهووس المجنون للحياة والاستغلال والعبودية، هو دافع "نرسيس"، أو دافع الشاعرة بالمعنى الدقيق؛ لأنه لم يسلم قياده للجهات، أو وقع تحت غواية الألوان؛ ألوان الحياة، وارتضى أن يعيش بتنسك، ويكتفي بما لديه لتبقى الصورة نقية بلا لوثة.

(3)
نرسيس..
نكَّسَ عينيهِ إلى الأبدِ
حينَ غرقَتِ الشمسُ في البحيرةِ
تسمّرَ حارساً لما يطفو منها..
لِئلا تجفَّ صورتُها من السّماءْ!
فعاقبتْهُ قدماهُ لأنَّهُ أنِفَ دعوةَ القّبراتِ للرّقصِ
زرعته ظلاً لهلوساتِ الماءْ
وتمثالاً  لشقاواتِ الندى
فتقطَّرَ هواهُ بصمتٍ في حشاهْ
ولفرطِ غرقِهِ في المعنى
صارَ قلبُهُ حصاةَ شمسْ!
الحقيقة لم أشأ أن ادخل في التحليل وتوظيف الصور من خلال الوصف والأمكنة، ولكن لابد من ملاحظة القدرة الهائلة في رسم اللوحة الفضائية للنص في توزيع الأشياء بانزياح مركب، وهذا ما أودّ أن يُلتَفت إليه في قدرة هذه الشاعرة، وهذا ما نتكلم عنه هنا، إنه الرسم بالكلمات، والتأسيس المعرفي؛ لإعادة بناء الأسطورة.. هنا  تتكلم  بصورة بلاغية في غاية الروعة
(فتقطَّرَ هواهُ بصمتٍ في حشاهْ
ولفرطِ غرقِهِ في المعنى
صارَ قلبُهُ حصاةَ شمسْ )
التقاطها التفاعلي مع الحياة، وحسها  الفني الشاعري، تراكمه بصمت، ونرجسية من أجل  صياغة المفاهيم، وتقول من شدة استغراقها في هذا الجمال الشعري تركت ما دونه حتى تحول قلبها إلى حصاة شمس، صلادة وجفاف، هي طلقت الحياة من أجل السمو.
(4)
نرسيس..
مشَتْ به السّطورُ كما تشاءُ
درباً لغرائزِ الغيبِ في العبادْ
لكنَّهُ قالَ بصمتٍ ما شاءْ
ولحرفةِ كيدِ الأسطورةِ ..
وكم تكيدُ المرأةُ حين يُلوَى قلبُها
ركنَتْ في الظلِّ رهبةَ معناهْ
بأنْ أغفلَتْ قدرَهُ المدائحُ
ولمْ تكفِّنْهُ في السطورِ..
برتبةِ شهيدْ!.
تستمر بِنَا سعاد محمد في  مرافقتنا إلى البناء الأسطوري الذي أعادت أيديولوجيته الحكاية بانعكاسها الشرطي على نهج كارل يونغ، وليس على نهج فرويد، توضح لنا البنى العليا للاشعور الجمعي، باستدراج الرموز، مع الإحالة. على قضية الانطواء  الذاتي لها، ورحلتها بين السطور؛ سطور الشعر، وانكفاء قلبها؛ الذي مات دون أن  تقيم الشعائر المطلوبة.
في الخاتمة أقول إن هذا النص الشعري بمصاف الأعمال الأدبية الخالدة، ومع كل العسرة الأولية في قراءته؛ ألا إنه ينطوي على أبداع قلَّ نظيره، ليشكل نموذجًا معياريا، لصنعة الأدب في أرقى حالاته الفنية.

 

تعليق عبر الفيس بوك