لن تعرفوا كيف يبني حجر من أرضنا سقف السماء

د. سيف المعمري

مهما كثر الجدل حول التاريخ وما يجري حوله من نقاشات وتأويلات، ومحاولة كثيرين إيجاد مكان لهم فيه إلا أنّ ذلك لا يجب أن يجعلنا انفعاليين مع مثل هذه الأحداث، حيث لا تتعدى الكلمات أن تكون مجرد أحجار سقطت على ماء راكد فهزّته قليلا ثم عاد إلى السكون مرة أخرى في انتظار حجر آخر يحركه، وهكذا لا نفكر في التاريخ إلا حين تسقط الأحجار فيقلقنا دوي سقوطها، ونخشى أن تطمس شيئا مما نعرف عن أنفسنا وإنجازات أجدادنا، ولا نعرف في الواقع إلا القليل لأنهم صنعوا أكبر مما نتخيّل، ووصلوا إلى أبعد مما نعرف وكتبوا أكثر مما يمكن أن نقرأ.

لذا ما يجري إن كان له من أثر؛ يجب أن يحركنا عمليا لا انفعاليا. ويجعلنا نعمل على تحويل الحجارة التي تسقط هنا وهناك إلى مادة نصنع بها منجزا آخر بدلا من أن نشغل أنفسنا بإعادة قذفها في الاتجاه المضاد، فتاريخنا لا يحتاجنا للدفاع عنه فهو كان تاريخ بناء حضاري مع بقيّة الأمم؛ لا تاريخ سطو وتجريد لمنجزات الآخرين، وهو يستمد قوته من نزعة المبادرة الحيّة في الحركة للتفاعل مع الآخرين وفق أسس إنسانية لصناعة منجزات حضارية يُستفاد منها باستمرار كمنطلق للتجديد والاستمرارية في مواجهة أي عثرات، وهنا تعمل جينات الاستمرارية والبقاء ودورها دائما في بعث التاريخ إن واجه تحديات في بعض الفترات.

إنّ السؤال الذي يجب أن نهتم به هو ما مقدار التاريخ الذي يقدم لأبنائنا في مختلف الأعمار والمراحل في مؤسسات التعليم، والأكثر من ذلك كيف يقدم لهم أي الطريقة الجذابة التي تتناسب معهم والثقافة التي يتعاملون معها، فكما يقول الكاتب الأمريكي فانس باكار إنّها ليست السلعة فقط التي تروق المشتري ولكن طريقة لفها في الورق، إذن علينا أن نكون فنانين أو نعد فنانين لتقديم التاريخ لهذه الأجيال التي تضع رجلا في الحاضر وأخرى تمدها لتضعها في المستقبل. والتاريخ هو فن توظيف التاريخ في صناعة المستقبل، وهو الذي شغل أجدادنا في كل المراحل والعصور، فحين كان البرتغاليون يحتلون بعض أجزاء الساحل فكروا كيف يعززون قوة البلد لطرد البرتغاليين، وتحصينها بعد ذلك من مختلف الجوانب حتى تطاردهم في مناطق بعيدة منطلقين من قاعدة أنّ الهجوم هو أفضل وسيلة للدفاع، وهي القاعدة التي يجب أن نوظفها اليوم، فالهجوم على المستقبل والتمكّن منه والتفوق فيه هو أفضل وسيلة للدفاع عن التاريخ والماضي والدفاع عن الإرث والمكتسبات والمنجزات الحضارية، نحن نلتفت للماضي لنتعلم منه ما الذي فعل الأجداد وما قيمة منجزاتهم لعصرهم ومواردهم، ونحن نتطلع للمستقبل لنحدد ما الذي يمكن أن ننجزه مقارنة بمواردنا وإمكاناتنا لكي يضاف إلى سجل التاريخ الذي أنجزه غيرنا، فالتاريخ هو استمرار صناعة القوة والإرادة. وذلك عندما نعرفه جيدا ونتعلم منه من نحن وما يمكننا أن نفعل بالحجارة التي ترمى علينا من هنا وهناك.

إنّ الأمم التي تملك التاريخ تتعرض لتحديات مستمرة، وهذا يعد عاملا إيجابيا سوف يساعدها على إدراك مكامن قوتها، حدث ذلك لفرنسا عندما هاجمتها ألمانيا في الحرب العالمية الثانية، وحدث لليابان حين أطلقت عليها القنابل النووية، وتعرضت أمريكا لنفس الشعور بعد هزيمتها في فيتنام، والأمثلة كثيرة. ونحن في حال أفضل من ذلك لم نتعرض لهزيمة عسكرية ولم نشارك في حرب لمصادرة حق الآخرين في الحياة، ولا أحد يحملنا المسؤولية عن مجازر تاريخية، ولم نتآمر مع أحد ضد أحد، تاريخنا كان نضالا من أجل الحفاظ على الاستقلالية والحرية، ورغم أنّ أجدادنا وصلوا إلى أماكن بعيدة من الجغرافيا الإفريقية وحكموها إلا أنّ ذلك لم يزرع فينا الشعور بالعظمة التي يجعلنا نزدري الشعوب الأخرى وننتقص منها، ولم يقودنا إلى بث مضامين التفوق والعظمة في مناهجنا الدراسية، بل إنّ احترام التحولات التاريخية قادر على عدم تدريس طلبتنا حدود الدولة في المنطقة في التاريخ المعاصر، كل ذلك يجعلنا نقف على أرض صلبة تتطلب منّا أن نمضي لصناعة المستقبل دون الانبهار بأحد، فنحن قادرون على توظيف ما يجري حول تاريخنا في بناء إرادة جديدة وإضافة منجزات أخرى لترسيخ ثبات أمتنا وإبداع أبنائها وجعل بلدنا مقصدا للشعوب التي تؤمن بالمستقبل والعدالة والسلام وعدم الاعتداء على أحد سواء في الماضي من خلال تاريخه أو في الحاضر من خلال أمنه ووجوده، والتعليم يمثل بوابة مهمة للتعلم من التاريخ، وبث الحياة فيه وربط الطلبة والاقتصاديين والسياح به، ويمكن أن يعزز ذلك فتح مزيد من المتاحف الرسمية والخاصة، ووضع منهج خاص بالتاريخ العماني في مختلف مستويات التعليم، وإقامة مسابقات بحثية للطلبة للكتابة عن الرواد العمانيين في مختلف المجالات، وتأليف القصص والروايات التاريخية، وإقامة المحميات التاريخية، ووضع أيام تاريخية سنوية، وتأسيس مجلات تاريخية متخصصة، وتشجيع رواد الأعمال الذين يتبنون علامات تجارية تراثية، وغيرها من الأفكار التي تجعل من التاريخ قناة للوصول إلى المستقبل لا قناة للهروب منه.

فليقل الآخرون ما يشاؤون عن تاريخنا فنحن لا نملك أن نمنع أحدا يرغب أن ينسب نفسه إلى عمان المترامية الأطراف في الماضي والممتدة العلاقات الحسنة في الحاضر، الأهم من كل ذلك هو ما نراه نحن ونتعلمه من تاريخنا، وما نعده لمستقبلنا، فمعركتنا مع المستقبل لا يمكن أن نسمح لأحد أن يصرفنا عنها إلى الماضي.

إنّ أفضل ما يمكن أن نستحضره في هذه النقاشات التاريخية ما قاله الشاعر الفلسطيني محمود درويش في قصيدة "أيّها المارون بين الكلمات العابرة" حيث قال عن قيمة التاريخ والوطن بأنّهما أزمان متصلة لا يمكن أن يعرفها إلا أصحابها أمّا المارون فمهما أخذوا منها لن يعرفوا قيمتها ولا قدسيتها:

أيّها المارون بين الكلمات العابرة

احملوا أسماءكم وانصرفوا

وخذوا ما شئتم من زرقة البحر ورمل الذاكرة

وخذوا ما شئتم من صور، كي تعرفوا

أنكم لن تعرفوا

كيف يبني حجر من أرضنا سقف السماء

فخذوا الماضي، إذا شئتم إلى سوق التحف

وأعيدوا الهيكل العظمي للهدهد، إن شئتم

على صحن خزف

لنا ما ليس يرضيكم، لنا المستقبل ولنا في أرضنا ما نعمل

أيّها المارون بين الكلمات العابرة

كدسوا أوهامكم في حفرة مهجورة، وانصرفوا

فلنا في أرضنا ما نعمل

ولنا الماضي هنا

ولنا صوت الحياة الأول

ولنا الحاضر، والحاضر، والمستقبل

ولنا الدنيا هنا.. والآخرة