إطلالة على تطبيقات مصطلحي الحضارة والثقافة


محمد عبد العظيم العجمي – مصر


إنّ الحضارة هي مظاهر نتاج العقل البشري (العلمي) والخبرة التراكمية الإنسانية من المعارف والعلوم والفنون، ويكون ذلك في مدى زمني محكوم بفترة من الفترات وأمة من الأمم، وهي نتيجة طبيعية لحكم استخلاف الإنسان في الأرض ليعمرها، ويبرز فيها ومن خلالها ما أودع في العقل البشري من القدرة والقوة التي جعلته سيدا علي الكائنات، وقابضا على زمام الريادة في الأرض.
والثقافة هي المنتج الفكري لهذه الحضارة، والتي تعكس فكر الأمة المتحضرة وأخلاقها وآدابها ودينها، وفلسفتها الاجتماعية والسياسية والعلمية، وكيفما تكون ثقافة الأمم، يكون تأثير الواقع الحضاري لها على العالم حولها، وما تخلفه من بناء أو هدم يمتد أثره إلي الحضارة والأجيال الوارثة بعدها، وربما تندثر الحضارة، ثم تعاني البشرية من ويلاتها زمنا، لما خلفته ثقافتها (العلمية والفكرية) من أثر ممتد (إيجابي أو سلبي) في الحرث والنسل.
وإذا كانت الثقافة هي هذا النتاج الفكري الإنساني للحضارة من العلوم والفنون، فإنها أيصا إحدى أهم عوامل التأثير في البناء الحضاري، والمكون الأساسي للعقلية التي تنتج، والأمم تستلهم مكوناتها الحضارية وتصيغ تفاصيل حياتها المدنية والسياسية والعسكرية من موروثها ومنتجها الثقافي، كما يظهر ذلك جليا في ما خلفته حضارات الأمم السابقة، وما جعل لكل منها بصمة وصبغة تميزها عن غيرها.
وإذا كانت الثقافة تغرس بصمتها في منتجات الحضارة فتظهر عليها، فإن ذلك ما أكده الدكتور: زكي نجيب محمود، في كتابه ثقافتنا في مواجهة العصر، حيث عنون إحدى موضوعاته بـ "حضارة الأخلاق" فقال: إذا كان لكل حضارة ما يميزها، فإن من أهم ما ميز الحضارة الإسلامية (الأخلاق)، وبالتالي فقد تشكلت ثقافتها من خلال مجموعة من المبادئ الأخلاقية في المصادر الأولي "القرآن والسنة" ، تبدأ من اللبنة الأولي للمجتمع (الأسرة) وكيف تؤسس، ثم مرحلة التعايش الاجتماعي وكيفية التعاون والتفاعل مع الآخر من أصحاب المِلل، وعلاقات الجوار مع الدول، وقوانين السلم والحرب، والتنمية الاجتماعية والبشرية، وحفظ الفروض الخمسة (النفس والعقل والعرض والدين والمال)، وحفظ الحرث والنسل، وحقوق الأفراد والمجتمع والمرأة والوالدين، وأحكام الطعام والشراب واللباس، وأحكام البيع والشراء، ومحاربة الربا وأكل الأموال بالباطل، والنهي عن الظلم والغبن والغش والغدر... الخ ، إنَّ ما سطرته الشريعة من ضوابط وأخلاقيات ومثل وقيم تحكم علاقات الأفراد والمجتمعات والدول، لا تدع شاردة ولا واردة إلا بينت لها أصلا في الكتاب والسنة وفصلته بعد ذلك كتب الفقهاء والعلماء.
ولقد رأينا دلائل التاريخ وشواهده تقر بذلك، في عصور الحضارة الإسلامية، وقد أكد المؤرخون أن أزهي عصور اليهود هي تلك التي عاشوها في ظلال الخلافة الإسلامية في الأندلس، ثم حين سقطت الخلافة الإسلامية في قرطبة (1492م) جاء الأسبان فنصبوا محاكم التفتيش وساموا الناس سوء العذاب وأجبروهم على التنصر أو مغادرة البلاد، وقد كان هذا أيضا مع أصحاب المِلة الواحدة المغايرين في المذهب وتغيرت ثقافة الحياة والتعايش إلي النقيض.
وقد سطَّر الأستاذ: أبوالحسن الندوي، كتابا بعنوان: ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين..  لخَّص فيه فضل الحضارة الإسلامية علي العالم والبشرية وماقدمته قيمها للإنسانية، وما جنته بعدها الحضارة الغربية وثقافتها علي البشر.
وإذا كانت الحضارة الإسلامية قد ميزتها ثقافة الأخلاق والقيم الإنسانية ، فإن الحضارة الغربية رغم ما قدمته للعالم من الوثبة العلمية والعملية والمادية ، فإنها لم تعد أن طورت مظاهر الحياة ووسائلها ، وأعلت من رفاهية الإنسان المادية ،وقربت بين أقطار العالم بالنقل والانصالات ، وقدمت له الرعاية الطبية والصحية والنفسية..  الخ.
لكنها..  علي المقابل الثقافي والفكري لم تنتج إلا ثقافة الحروب والامبريالية التوسعية والفاشية والنازية ، يكفيها من ذلك الحربين العالميتين اللتين خلفتا ما يزيد علي ( الخمسين مليون قتيل )، وهيروشيما ونجازاكي التي خلفت ( مائتان وخمسون ألف قتيل)  ، كذلك أنتجت الحضارة الغربية ثقافة العري والجنس والقمار والربا وسيطرت رؤوس الأموال واستفحالها ، وحطت من قدر المرأة حتي أصبحت سلعة تروج لكل ما يعرض من البضائع حتي إطارات السيارات ومستلزمات الحلاقة  والدهانات .
لقد جلبت الحضارة الغربية للبشرية ما أقض مضاجعها ، وأنكأ عيشها وأهاكت الحرث والنسل بما أشعلت من حروب في بقاع الأرض وتغيير أنظمة الحكم وتهجير وتشريد الملايين ، والتطهير العرقي والإبادة الجماعية والتفرقة العنصرية ‘
لقد أظهرت إحدي الصحف ‏عالم انثروبولوجيا البريطاني إيفانز بريتشارد عندما زار جنوب السودان عام 1926 إلتقطت له صورة وهو يجعل أحد اطفال قبيلة الأزاندي كمسند لقدميه بينما جعل الطفل الأخريحمل عكازه.
‏وأعتبر إيفانز أن الاوروبيين وحدهم هم البشر بينماباقي الأعراق الأخرى أنواع متحولة بدرجات متفاوتة عن القردة ..
إن العالم المتحضر في الثقافة الغربية ، قد ارتد إلي عصور الجاهلية الأولية رغم ما حققه من طفرة تلمية ، وقد أصبحنا شركاءه رغما عنا بما فرطنا فيما في أيدينا من القيم ، وما تركناه من قيادة البشرية ، وقد صرنا في ذيل الأمم ، وغياهب الزمان.

 

تعليق عبر الفيس بوك