في الاحتفال باليوم العالمي للشعر في 21 آذار (مارس):

الحداثة الشعرية: الإطاحة بلغة الشعر القديم وقَداسة المشروع التراثي

...
...
...
...
...

قيس مجيد المولى – شاعر عراقيّ مقيم بالدوحة


من ضمن تحدي الأعراف السائدة في اللغة لدى المحدثين أنهم أهملوا القواعد النحوية والتي كانت تشكل ضمن القصيدة الكلاسيكية ركناً أساسياً في بناء الجملة الشعرية، أن أغفال البناء الشعري الجديد لهذه القواعد يعني في أقرب تفسير له أن رواد الحداثة كانوا جادين في تحطيم هيكلية البناء القديم والتي تشكل سلطة القواعد أهم مرتكزاته الدلالية والصوتية وهذا التحول أو بالأحرى هذا الهدم لابد أن يصاحبه الكثير من المشكلات السو سيولوجية والفلسفية وأذا ما أخذنا بنظر الإعتبار أن جمالية اللغة تكمن في أستعمال نظام المفردة ضمن علاقاتها مع متوالياتها من المفردات في تشكيل النص الشعري.
 وهذا التحلل أو الانتقال أو الهدم يعني في أحد جوانبه كيفية مواجهة التراث والتعامل معه وكذلك مستويات الأنفعال في الحداثة الجديدة وكيف تكون بنية النص ضمن منحناها الجمالي والدلالي ..؟
الترقيع والاكتشاف:
 أراد المحدثون أن تكون للمفردة فعلها المزدوج وتأثيرها المتعدد الأغراض وبالتالي ستتخذ وسيلتها إلى الغموض والغموض سيولد أشكالية أخرى تتعلق بمدى استقبال المتلقي لما يَقرأ.
إن المقارنة التي مثلها أدونيس مثلت عين الصواب حين قارن بين جمالية الشعر القديم وجمالية الشعر الجديد إذ أن مهمة الشعر القديم من الناحية الجمالية كانت إلى حد بعيد مهمة ترقيعية أما الشعر الحديث فمهمته الإكتشاف والهدم والغور في المجهول وهنا لابد أن تثار أسئلة كثيرة ومن ضمنها هل أن الشعر القديم خلا من البعد الجمالي وهل أن الشعر القديم لم يوفق في تسخين القوى النفسية ولم تكن عذوبته العاطفية قادرة على تأجيج المشاعر والمكونات الروحية وهل هذا يتعلق بطبيعة منتج ما لفترة معينة ما أم هو القياس لما كان عليه الشعر القديم ..؟ ثم هل أن عملية الهدم لدى رواد الحداثة هدم لغة وخلق أخرى سمة توافقية بين كل المحدثين بغض النظر عن الأختلافات فيما بينهم بالتوجهات الفكرية والعقائدية والنظر إلى مفهوم الحداثة الغربية.
الرؤية الجديدة:
لقد أصبحت الجملة الشعرية تعتمد نمطا جديدا من التوزيع والهدف في ذلك خلخلة العبارة التقليدية وأزاحة ثوابتها عن أسس الاشتغال مع تقليم العديد من الأدوات اللغوية التي أصبح ظهورها لايطاق ضمن الأتجاهات الشعرية الجديدة ومما يساعد على هذا التقليم هو الإتجاه نحو تشتيت الجملة الشعرية وهذا التشتيت يؤدي لبعثرة المعنى لتلد معاني أخرى فيبدو النص الشعري أجزاء متباينة الإتصال ومتباينة المثابات والنهايات وتبدو وكأن لا جامع بينهما ،فتفكيك الجملة الشعرية يعني إعادة توزيعها وأعادة التوزيع تعني التغير في شكلها البنائي والتغيير في شكلها البنائي يعني التعبير بغير مدلولاتها أي لاصلة لها ببنائها التقليدي الأمر الذي يتطلب المزيد من الإحتراس والمزيد من الإنتباه للمغايرة.
وضمن ماذكرنا فقد قدم عدد من النقاد أراءهم فيما يخص تلك الأنتقالية كان عز الدين أسماعيل قد وضع يده على (الأصول الجمالية للنقد العربي) وخالدة سعيد (البحث عن الجذور) وكشف مارون عبود عن (رواد النهضة الحديثة) وعبد القادر القط عالج العديد من المفاهيم والأشكالات في (قظايا ومواقف) وقدم لويس عوض دراسته المطولة عن (المؤثرات الأجنبية في الأدب العربي الحديث)، واستفاض محمد مندور في (المنهجية في النقد العربي) وعبد الجبار داوود البصري في (الشعر العراقي الحديث) وسلمى الخضراء الجيوسي (الشعر العربي المعاصر تطوره ومستقبله) وفي الإتجاه نفسه عن الشعر العربي المعاصر أسهم شوقي ضيف وعن الشعر في لبنان قدم هاشم ياغي دراسته التفصيلية وفعل أخرون فعلهم النقدي وتوالت الدراسات من المشرق والمغرب لمعاينة ومحاكاة الجديد وأستنطاق أسباب ثورته والعوده لماضي القديم وماالذي لم يسلط الضوءعليه.
كانت التجربة الجديدة بمواجهة الأنسان وخوفه وخنوعه ذلك الإنسان الذي لم يذق معنى الحرية فكيف يتلاءم مع وجوده، قبل تلك الرؤية العربية رأى رتشاردز بالتجربة الشعرية نوعا من التعبير النفسي وهي ذات وحدة شعورية كاملة والمهم في ذلك أن كل شيء يبنى في جمالية الأثر الفني بوجود أسس وقواعد لأعادة كشف المنتج كذلك الحال في رؤية الحداثة الشعرية العربية في جانبها المهم الذي يتعلق بالأنسان العربي فلابد من وجود أسس وقواعد للتعامل والمنتج الجديد فقد شكلت القضايا العربية (القهر- الأخفاق- اليأس- القهر الأجتماعي- الذل السياسي-فقدان الحرية ) الجانب الأكثر أنطلاقا نحو التحديث للتعامل مع الأزمات التي سميت بالأزمات الشاملة وهذه القضايا ومواجهتها لاتتطلب تغييرا في البنى الشعرية وفي شكل القصيدة ووظائفها فحسب وأنما يصاحب ذلك بلورة مفاهيم ثقافية تنسجم مع دعوة الحداثيين للتمرد على الواقع فقد أنتج الشعر الجديد حزنه وعبر عنه برؤية جديدة وجعلوه كظاهرة يطمئن الشاعر من خلالها لهذا العالم عبر الذات اللامنتمية إلا لذاتها.
التحرر من الأسلوبية البدائية:
 وقد قام معول الحداثة المقدس بهدم البناء اللغوي للغة الشعرية في القصيدة القديمة، وهو عمل جدي وجاد للإنقطاع عن القوانين وقواعد اللغة التقليدية والتحرر من الإسلوب البدائي عند التعامل مع التراث، بل أن هذا الهدم أخذ بنظر الإعتبار تفكيك المفردة القديمة بكيانها المعهود، وكانت الإرادة واضحة لدى المحدثين في إعادة البناء على أرضية جديدة مستندين في هذا الى وسيطهم الجديد مع المجتمع إبتداءً بالصفاء الشعري ووصولا إلى السمو، للوصول لكونيتهم الخالية من الخلط والإعادة ضمن مشكلات لا حصر لها إزاء بدايات أولية لليقظة العربية وشيوع الأيدلوجيات وتقليص المسافات ما بين النظريات الأدبية وتأثير مخلفات الحرب العالمية الثانية على الصعيد الإجتماعي والإقتصادي وكذلك مفهوم الحريات وحقوق الإنسان.
لقد هيأ كل ذلك للمحدثين الجدد مواجهة هذا الخليط من الإشكالات بمفاهيم نظرية ولا بد فيما بعد من الإنتقال ومن هذه المفاهيم إلى تبني النظريات المناسبة ضمن ما أفرزته تلك المشكلات وكذلك التطورات التي يشهدها العالم على كافة الأصعدة وبالأخص منها التحول الذي طرأ على كيان المجتمعات التي بدأت في التحاور الذاتي عن متطلبات حاجاتها الأساسية، وفي مقدمتها مسألة الحريات التي دخلت كأساس ضمن أزمة الثقافة العربية مقابل الحاجة الروحية للإنفتاح الإنساني والإفادة من المشتركات بدلا من التطلع من خلال المناطق الضيقة إلى محدودية الإبداع في الثقافة العربية والخضوع لمسمى «قداسة»‌ المشروع التراثي والذي استغل من قبل رواد القصيدة الكلاسيكية ضمن المفاهيم العامة والجاهزة نحو فهم التراث العربي وكيفية الإفادة منه.
أن تأسيس حركة الحداثة وتحديدا جماعة «مجلة شعر» تم على أساس تلك المشكلات التي ذكرناها، وبالتالي فأن هذه المواجهة الشمولية تعني في جانبها الأساس أن همها كان إبداعيا ضمن مفهوم الوصول للجمالية وتحرير الذات، ولا شك أن هذه الدعوة قد أتت بالحاجة التي يشعر بها الكثير من الشعراء العرب، ومؤشر هذه الحاجة أنها لاقت القبول والاستحسان والإنتماء من الشعراء حين سارعت أقلامهم بالكتابة في المجلة.
واحدة من المعضلات:
إن مؤسسي الحركة والمساندين لها قدموا تصورات جديدة عندما عرضوا إلى تحليل القصيدة القديمة وتحليل الأثر الذي تركته في عقلية المتلقي، وانعكس ذلك على استجابته النفسية والعاطفية، وبالتالي كانت المهمة شيئا من العسرة في تطويع الأذن القديمة وتعديل ألسنة النطق وجعل الأحاسيس برمتها تشترك في ذلك الإداء أمام لغة بمرور الزمن اكتسبت حصانة دينية وبيئة كبيرة حاضنة بل رضا إلهي كونها لغة القرآن المحفوظة صحائفه في السماء، فالسطو عليها أو محاولة العبث بها يرقى إلى منزلة الخروج على الأعراف الدينية والأخلاق العربية وبالتالي فعده البعض بمصاف التنكيل بالحضارة العربية، وما أتت به من متغيرات في صالح العقلية العربية كمنهج وسلوك.
كانت الحساسية تجاه «اللغة» تلك هي واحدة من المعضلات لسبب سابق ذكرناه، والسبب الآخر هو بطء التطور أو بالأحرى الشللية التي أصابت الفكر العربي في توجهاته الخاصة لإختيار لحظته المناسبة لإستيعاب النتائج المترتبة لما وراء الحربين العالميتين بعد أن قُسمَ الوطن العربي ونمت الإقطاعية وتغلغل الإستعمار في مفاصل متعددة من أجزاء الجسد العربي.
ورغم ذلك لم يحفل القاموس العربي بشيء جديد بإضافة نوعية رغم أن اللغة تتطور تطورا طبيعيا ضمن سياقاتها بسبب رسوخ الماضي التقليدي في العقل وفي المخيلة، إن النقد والرفض وإعادة الخلق من الصفات التي لازمت سعي المحدثين للوصول إلى السرية الساحرة، وموازنة الحفاظ على ما في اللغة من عذوبة، والتي تكمن في تحسس أعماق المجتمع وليس الإقتراب من مناطق متحسساتها والإنتهاك يعني عند المحدثين امتلاك إرادة التغيير من خلال الإحساس بوعي المعاناة، لذلك فأن ما يسعى لتقديمه من عمل إبداعي لا يرتبط بهيكلية الزمكانية الآنية بل تصوره بأن الذي سيأتي هو نفسه الذي الآن، فعليه أن يكون الصوت والكلمة بمستوى الإحساس بالغد وليس التعبير عن الواقع المقيت حسب.
هذا التصور الذي ذكرناه عن اللغة جعل العديد من شعراء الحداثة يقفون بالضد نحو قواعد النحو ونحو فقه اللغة ودعوا لتصور جديد أو بالأحرى لإستعمال جديد للنظام الذي ارتكزت عليه قواعد اللغة العربية.
إن الانتقالية الكبيرة التي أحدثها المجددون في الشعر من مرحلة انحطاط مضمونه إلى انتقاله لروح العصر وإشباعه بمتحولات ذلك العصر يعني بأن ذلك التغيير ليس تغييرا في كيان الشعر فحسب بل ومثلما دعا إليه يوسف الخال في بيانه تغييرا في النظام المغلق والتجربة والحياة والعقل.

 

تعليق عبر الفيس بوك