انزلاق برميل

 

علي بن كفيتان

قبل بضع سنوات، انزلق برميل نفط من ناقلة عملاقة إلى القاع، الغريب في الأمر عدم حدوث أي فرقعة على وجه المحيط الواسع، حتى أسماك السطح المسكينة المنشغلة بكسب قوتها اليومي لم تُعِره اهتماماً، فربما توقَّعته سمكة أسطوانية بريئة تتهادى برفق إلى عالم الأعماق البعيدة؛ حيث تفضل الحيتان العملاقة العيش بهدوء.

بعد حين، تسرَّب من إحدى فتحتي البرميل رائحة تُشبه الزيت، وتكفَّل المحيط مجدداً بتهدئة خواطر مملكة الأسماك بأنه حادث عَرَضي وسيزول، ولن تكون له أية أضرار على صحة الأسماك، ولا على مراعيها الخصبة. كالعادة، تطفو المشتقات الزيتية على السطح، بينما تظل الأعماق آمنة. وبمرور الوقت، تزايدت بقعة الزيت في الأعلى، وحدث همس بيت أعضاء المملكة السمكية، فعندما تتقابل سمكتان تسألان الثالثة بحذر عن الأمر القادم من الأعماق المظلمة الهادئة، تبعث الأخيرة برسائل طمأنه للجميع بأنَّ هناك عملا جادًّا لإصلاح التسرب خلال فترة وجيزة، لكن على تجمعات الحيد المرجاني التي تستهلاك معظم الغذاء والطاقة الناضبة أن تُسهم في عملية التنظيف؛ كون الخطر يداهم مكامنها الهشة، تستجيب على مضض، ويُطلب منها عدم الرعي إلا في أوقات الليل للحفاظ على الموارد، وعليها أن تُسهم طوال النهار في حملات تنظيف الحيد المرجاني بإشراف بعض المتطوعين من عالم الظلمات (أسماك القاع).

تعاظمتْ بِركة الزيت في الأعلى، وبدأت الأسماك الصغيرة تشعر بالاختناق، فلم يشفع لها صوم النهار وعمل الليل في تحسين الوضع. في هذه الأثناء، أتى مندوب الأعماق مُجدداً إلى السطح، وصرح بأن وضع البرميل في الأسفل يتحسَّن تدريجيًّا، وأنه بدأ يصعد ببطء إلى الأعلى؛ مما يوحي بفرج قريب، وعلى سميكات السطح أن تتحمل المزيد من تبعات التسرب، وأن تعمل بجد للحفاظ على ما تبقى من موطنها الأزلي الذي لم تعرف غيره، والكل ينتظر صعود ذلك البرميل مرة أخرى إلى سقف المحيط وتحسن ظروف هذه المملكة المتفانية. صعد البرميل أخيراً، لكنه للأسف كان فارغاً فالتهمته يد صياد كسول وذهب به إلى سوق الخردة، وباعه بدراهم معدودة، وكان فيه من الزاهدين.

هُناك أخبار سيئة.. لقد سقط برميل آخر، وهو في طريقه إلى القاع وعد المختصون بأن يتم إحكام فتحاته تماماً، وأن إمكانية التسرب غير واردة، وعندما كان في طريق الذهاب، تقابل مع برميل آخر في طريق العودة، توقَّف البرميلان معًا لبعض الوقت، يتجاذبان أطراف الحديث، ثم ذهب كل منهما إلى وجهته وعالم الحيد المرجاني يراقب ببالغ الأسى، فقد أصبحت حركة مرور البراميل الصاعدة والهابطة تزاحم الجميع، في حين لم يعد يعلم أحد ما هي الرقعة المتوقعة لبقعة الزيت في الأعلى، لا حلول في الأفق للبراميل التي باتت تنزلق بانتظام من سطح الناقلة، سوى أن يدفع الجميع التكلفة بالتساوي بمن فيهم قطعان السردين المسكينة، التي كُتِب عليها أن تكون وقوداً للطاقة النفاثة للحيتان العملاقة.

قالوا هذه هي سُنن الحياة ونواميسها، وقالوا هذه هي ضروريات التوازن الطبيعي، وقالوا أيضاً هذه هي حتمية السلسلة الغذائية التي تبدأ بالدودة المندسَّة تحت التراب، وتنتهي بالحوت القاتل في لُج المحيط أو الأسد المفترس في أعماق الغابة، ولا يهم ما يحدث بينهما من مراحل؛ فهي مجرد سيناريوهات مكررة لعالم الواقع.

البراميل لا تزال تنزلق وهي مُمتلئة وتعود فارغة، على مرأى ومسمع من الجميع، هذا هو المشهد المكرر لعقود مضت.. إنها الحركة الدؤوبة بين البحار الواسعة والموانئ الكئيبة، والجميع بات مقتنعًا بأن التسرب عظيم في الأسفل، بينما يكابد من هُم في الأعلى للبقاء على قيد الحياة.

-----------------------------

* قصة قصيرة طلبها مِني أحدُ الأخوة العاملين في مجال التوعية البيئية؛ ليستعينَ بها في محاضراته المدرسية، توضِّح تَبِعات التسرُّب النفطي على البيئة البحرية.

alikafetan@gmail.com

الأكثر قراءة