في الاحتفال باليوم العالمي للشعر في 21 آذار (مارس):

السِّحر المُخدِّر،، قراءة في نص (غادة سعيد)

جمال قيسي – العراق


دفق ساحر،، يعتريك عندما تقرأ نصًّا، بهذا السحر، آليت أن أبدأ، بقراءة النص، واستشفاف هذا الجمال الخلاب، قبل أن أدخل في  التفاصيل النقدية، ووعورتها، لكون النص مقطعًا سرديًّا، ولأديبة لامعة ومتمكنة من ناصية النقد، والسرد، مع انهماك غير مبرر، في الشعر، حسب وجهة نظري، غادة سعيد، ناقدة  محترفة، وساردة، بأسلوب ساحر، وهو ما سيتبين لنا  في  القسم الذي سنتناول  فيه. هذا المقطع السردي الجميل، فنيًّا.
نعود إلى السحر البلاغي، والدفق اللفظي الذي يشعرك، بأنك وسط، رياض غناء. في العادة السرد، ينثال بجمل تعزيزية، تلحق، وتذيل الجمل التقريرية، لتكسو السرد بالشاعرية،وهذه طريقة عمل العظيم ديستوفسكي، يأخذك، في رحلة تشعر بها بالملل،عندما تقرأ رزمة من الجمل؛ لكن يفاجئك، بجمل تعيد ربط، الأمر كله، جملة أو عدة جمل، تبث الحيوية لكل المقطع، وتنزع الملل، لتحيله إلى شد، ولهفة، وهذه هي لعبة السرد، والساحر الكبير، هيرمان ملفل، يُدخلك، بمتاهات الضجر، والعسرة، لكنه ساحر كبير، يختم جمله، بشيء لن تتوقعه أبدًاً، ليحيل النص إلى طاقة، لا تتمنى أن تنتهي، وهنا يكمن  الجمال الكبير للسرد، مع إنك تعلم، أنه تلفيق كبير، لكنه تلفيق، يشدك، كما يشد القلب حبل الوتين، ومع إن غادة سعيدة، تنتمي إلى المدرسة الفرنسية بالنقد، التي تتغذى على البنيوية، ومن ثم التفكيك، لدرجة، تجعل المتلقي يقرف، هذه المدرسة بحكم محمولاتها، وكثافة مصطلحاتها العلمية، لدرجة الإيغال، في الصغائر، حتى تفقد جمال الصورة الكلية للنص، إمعانًا، في التفتيت، وفي محاولة حثيثة، لنزع كل ما هو إنساني ، من النص الأدبي، استغراق تشيئي.
لكنها (غادة سعيد)، في السرد، هي ساحرة، لها نهجها التكثيفي، لبؤر الجمالية (استاطيقا)، لدرجة أنها، تضفي الشاعرية (بوطيقا)، على كل ملفوظ، وهذا السحر ربما تجده عند واسيني الأعرج، لكني أرى أنها تتفوق، بهذا النهج، لنأخذ هذه العبارة الساحرة التي تستفتح بها نصها:
 (كنت أستعيد مجد الشمس والزيتون وقامة الشعير الذي لم يتحسس قامته بعد، وزهور النّعمان، مع بداية اخضرار الحقول وتعطل الرياح..)
ما كل هذا الجمال؟، استعادة مجد الشمس والزيتون، أفق مفتوح على الزمان والذكريات،، والشباب،، والوطن في لحظات تألقه، والطبيعة وسحرها، هي متموقعة، في اللحظات المتوهجة، إنسان غير مهموم، سعيد بالتبادل بين الوعي، والطبيعة، وتقحمك في أتون. الحياة النابض، القمح واقف، بقامة سامقة ينتظر لحظات الحصاد، والقمح في هذا اللقطة والرهونية الزمنية، هو  رمز للحياة المعطاء، هي  في زمن الربيع، ورسالاته، التي تظهرها شقائق النعمان، واخضرار الحقول، واندحار الشتاء، ورياحه، مع الولادة الغناء للطبيعة.
هذه المحتالة البارعة (غادة سعيد) وأقول  محتالة، لأن السرد، هو عملية ا حتيال جميل، وتلفيق وخلق عوالم، نرغب بها، عملية تصالح كبرى بين منطقتي الشعور واللاشعور، واللاشعور، كما يذهب عمنا يونغ، هو وجود حقيقي ، وحيز حاله حال الوعي الذي يعترينا، وعند  الأديب، هو ما يستطيع أن، يتنقل بحرية بين الجانبين، فالأحلام،هي رسائل من دواخلنا، ستكون جميلة إن كان هناك توافق وتوائم، بين المنطقتين، والأديب، محتال، يتسلل إلى منطقة اللاشعور، ويقوم بالاحتيال ومن ثم السرقة للرموز، ويهرع بها ليسطرها، شعرًا، أو أدبًا، أو فنًّا.
من هناك نرى الإبهار التي تمارسه (غادة سعيد) في هذا المقطع السردي، وفي اللحظة الرشيقة، في تغاير التبئير، بتقالب السارد، وصيغ الحكي، تودعنا، في رواق ساحر، تنسجه على نفس المنوال، بخيوط شاعرية، تلفك، بثمالة، لتحقنك بِسُمِّها المخدر، أشبه بطقوس أنثى العنكبوت، في  الأحكام على فريستها، تفقد كل حيويتك، إلا الوعي، مجمل المقطع بلسان السارد الثاني، سحر مخدر، مفعم بالصور النابضة، والشاعرية.
فإلــــى قراءة نص: غادة سعيد......
كنت أستعيد مجد الشمس والزيتون وقامة الشعير الذي لم يتحسس قامته بعد، وزهور النّعمان، مع بداية اخضرار الحقول وتعطل الرياح.. على كرسي متحرك، كنتُ وصمتي الممتد الذي يغطي زماني كما تغطي اللحية الخفيفة وجهه أسمري.. استعنت بنظارتي الشمسية لاكتشاف سحر اللحظة، فاجئتني  رسالة الكترونية على هاتفي المحمول:
إلى تلك التي سكنت العقل والوجدان:
ها قد مرت فترة طويلة دون أن أتحدث إليك. لست أدري ما الذي حدث؟ حقا لست أدري.!
أخبرتك ذات مرة، عندما هربت من وطن جاحد ودين فاسد، يومها قضينا معا تلك الليلة المفعمة بالأشواق والأحزان والدموع..
تلك الليلة التي احتفت فيها دواخلنا الهشة المبعثرة بعرس الدم والألم.. هل تتذكرين أني قلت لك بأني أصبحت أتجنب وقوع عيني على عينيك؟ أتعرفين لماذا ؟
حتى لا يتكرر ذلك المشهد الرهيب الذي تكرر قبل سفري. لقد كنت أعرف أن فكرة الرحيل بالنسبة لمغتربٍ مثلي واردة في أي لحظة، لكن جنون الأمل كان يجرفني بعيدا... رغم كل شيء كان يجرفني...
كان يهمس لي أن لا قوة في الأرض ولا في السماء يمكنها انتزاعكِ مني. وأنتِ، هل كنت تعلمين؟ أكيد أنكِ كنتِ عاقدة العزم، على الرحيل من دوني!..
لكنكِ فضّلتِ أن لا تتحدثي عن عزمك أبدا، لأنك كنت تعرفين مدى جنوني. تعرفين روح المحارب التي تسكنني...
كنت كطائر الفينق الذي فقد الذاكرة ولم يشعر أبدا أنه احترق منذ زمنٍ طويل، وأنه خارج لتوّه من الرماد، منبعثا في كامل أناقته وتألقه. وأشعر فقط بجمالكِ وقربكِ. وأنّي هكذا كنتُ دائما.
ذاك الطائر الذي لم تعرف عينه معنى القبح أبدا ولا قلبه معنى الخوف أو الوحدة او الألم. لم أنتبه للنظرات التي كنتِ ترمقينني بها. ولم أدرك مغزى رموزها وإشارتها. لم أفهم الخطابات التي كانت تخترقني من عيونكِ التي امتزج فيها الفرح بالحزن... الأمل باليأس.. والخوف من الرحيل واستحالة ايجاد هدية تليق بجسدكِ الفاني..
حبيبتي و كل أيامي:
هل تتذكرين يوم وعدتكِ، أنني سأجد قطع غيار بديلة، تعوض قطعا أتلفها السكري في بدنك الأسيل، ذي السوالف الطويلة والفاحمة...
أعرف أنكِ، اللآن تقرأين هاته الكلمات، بعيون يستوطنها دمع فرحٍ، وتبتسمين في خجل ويداك تمنعان شفتيك من السقوط على الإيميل لتقبيل هديتكِ... مع أني أجزم القول: لو كنتِ في صحة جيدة،  لن تنمعك الفرحة من الاحتفال في الأماكن المغلقة كالعادة.
ببساطة، حبيبتي، لأنكِ لا تكرهين إلا الظلال وأنتِ معي.. يا لئيمة حظي... (أضحكُ ملئ السماء)..
أخذكِ من يدكِ، لا بل من روحكِ، ونذهب سويا، إلى جحيم فراش الحب بدم الزمن، فعشقنا ورباطنا وأرواحنا لا بد لها أن تعيش أكثر  من أعمار الأنبياء والرسل.. لنحارب الأوهام الكثيرة المعششة في رأسكِ.. مع تخليصه من فكرة الموت دوني..
أجلس الآن، داخل مقصورة القطار السريع على درجات السلم، متكئا على سارية باب النجدة. أنسج، في خاطري، الشعر والخواطر والأزجال والحـِكـَم لأرمي بها كنرد من غبار أو جمرة من لساني على شعرك المسدل على ركبتيكِ... لأختبر جمراتي ومداها العابر في التقاط اللوعة والمعنى... من سيدة قلبي وتاج رأسي المرصع بأنفاس الياسمين...
إنشدادي إليكِ لم يكن عابرا، لكنه كليّ، مربوط بالرعشات. جمرة لساني وسط فمي  كمن مضغ من السواك الكثير.  فحـُمرته كافية لأقول أن القبلة في الفم واللوعة في اللسان، ثم أستدرك أنكِ تتلمـّسينها. وأنتِ بعيدة عني، في دبيب حارق وحار يقود ولا ينقاد...
لن يعرف أي واحد في هذا العالم – حتى ظنونه – أن علاقتي بكِ، هي علاقة الهزيمة بالنصر، وأن صوتكِ الجريح المغموس في الوجع، مثل ريشة وسط عواطفي، خاصة وأنت غائبة عني، تئنين وأنا العاجز ساعتها على التخفيف من ألمكِ.. لألعن القدر..
أما الأن، فالقدر ابتسم لنا،.. نعم ابتسم لنا.. فجهزي نفسك، حبيبتي، لنعيش ما تبقى لنا من عمر الأنبياء في ورع الحياة وعطور الجنة..

أحبكِ..
أسمرك.. في الطريق مع هديتكِ..

تعليق عبر الفيس بوك