سيطرة الطائفية على الفكر السياسي العربي

عبيدلي العبيدلي

كثيرة هي الاجتهادات التي تحاول أن تُؤصِّل للأسباب التي قادت المنطقة العربية للنهايات التي تعيشها اليوم، من تشرذم سياسي، وتشظٍّ مجتمعي، وتقاتل فئوي. وقد سيطرت الخلفية الطائفية، سواء تلك الظاهرة الجلية منها، أو تلك المبطنة على نسبة عالية من الإصدارات السياسية العربية، التي اجتهدت كي تشخص هذه الحالة، وتقرأ الأسباب الكامنة وراءها. وجاء ذلك انعكاسا طبيعيا ومنطقيا للموجة الفكرية التجزيئية العارمة التي بتنا نشهدها وهي تجتاح مجموعة لا يستهان بها من مكونات الفكر السياسي العربي وحاضناته، بما فيها تلك العلمية. ولو تمعنا جليا في مناحي إصدارات تلك المكونات وأنشطتها، لوجدنا أن الكثير منها -بوعي أو بدون- يبرئ ساحة الذات العربية من الوصول إلى تلك النهايات، ويلقي باللوم على قوى خارجية، البعض منها لم يعد موجودا، والبعض الآخر ليس بريئا من التهمة، لكنه ليس السبب الرئيس الذي يقف وراء ما يجري، ومن ثمَّ يترك بصماته التي يحلو للبعض أن يضع مسؤوليتها على عاتقه، عند الحديث عن مقومات المشهد السياسي، والفكري العربي الذي يرسم معالمه.

ولو عُدنا للتاريخ العربي الحديث، خاصة الحقبة المعاصرة منه، وحاولنا قراءة أحداثه بشكل علمي رصين، بعيدا عن الانفعالات غير الموضوعية، فسوف تصدمنا الحقائق التي تكشف أن المسؤولية الحقيقية نتحملها نحن، بل ربما قادة الفكر السياسي لدينا، دون أن يقلل ذلك من الحيز الذي يشغله العامل الخارجي من حيث التأثير المباشر لعناصر الفكر الطائفي، وتغذيته للقوى المحلية والخارجية التي تقف وراءه.

المشهد السياسي العربي يُؤكد أن موجات الفكر القومي المناهضة للاستعمار والمناضلة من أجل طرده من البلاد العربية، كانت أحد الأسباب الرئيسة المباشرة التي أدت لتراجع الفكر الطائفي، بل وحتى المذهبي التجزيئي، لصالح الفكر القومي التوحيدي. لا ندَّعي هنا أن الفكر القومي كان خاليا من المثالب، وحديثنا هنا عن الفكر وانعكاساته التنظيمية، ولا ننفي أيضا قفزه في مراحل معينة فوق الواقع، والتصرف بمثالية ساذجة. لكن الحقائق، في مجملها تثبت أن طغيان موجات المد القومي التوحيدي مارست دورا إيجابيا في تقزيم محاولات المدارس الطائفية، ونجحت في لجم محاولات بروز الفكر الطائفي التجزيئية.

وحدها السنوات الثلاثين الماضية هي التي شهدت انتعاش الفكر الطائفي، وعرفت تغلغله في صفوف مكونات المجتمع، حتى نجح في فرض سيادته على نسبة عالية من تلك المكونات، وتمكن من إخضاعها لمنطقه غير السوي، وتسييرها لصالح مشروعاته، التي يفترض أنها تتناقض على نحو صريح وواضح مع أهداف الأمة وبرامجها.

والطائفية مصطلحا -كما يعرفها الكاتب عامر الهوشان- هي "مصدر صناعي أخذناه من الطائفة، والطائفة هي مجموعة من البشر يفترض أن لا تتجاوز الألف، تتحرك من الكل في إطار جزئية معينة تكون قد اختارتها وتعصبت لها، أو تبنتها مقولةً أو مذهباً أو رأياً، وبدأت تكرس جهودها لإبرازها على حساب مشتركات مع الكل الذي تنتمي إليه، فهناك مثلاً أمةٌ مسلمة وهناك طوائف داخل هذه الأمة؛ فالطائفة أحياناً تتجاوز أهمية الانتماء إلى الأمة لتركز على قضايا محددة تكون قد تبنتها، ويقال طائفيٌ لذلك الإنسان الذي يعلي ما التزمته الطائفة أو تبنته على المشتركات مع الأمة، ويعطيها من الاهتمام أكثر مما يعطي لتلك المشتركات، وبالتالي يصبح رغم اتصاله بجسد الأمة الكبير يكاد ينفصل عنها، (مضيفا) والخلاصة أن الطائفية كمفهوم لغوي وفكري وشرعي هي عبارة عن تجسيد لعدد من الناس (أقلية) متحركة في إطار الكل دون أن تنفصل عنه، ولم تكن الطائفية -تبعا لهذا المعنى- مشكلة في عالمنا العربي والإسلامي، ولا في مجتمعاتها، بل كانت في غالب الأحيان مصدرا للتنوع والقوة والاجتهاد، بل وسببا في دخول كثير من الناس في الإسلام -سواء كان المسلمون أكثرية أم أقلية- فالإسلام صهر جميع الأعراق والأجناس في بوتقته، فلم يعد هناك أقلية وأكثرية في الإسلام؛ فالكل مسلمون سواء كانوا فرسا أو روما عربا أو عجما؛ فالبخاري ومسلم والترمذي والنسائي والغزالي والقرطبي وصلاح الدين وغيرهم من العلماء والأمراء، كلهم مسلمون دون ذكر لجنس أو لون أو طائفة أو بلد".

وعليه، فلا بد من التأكيد على أن تجريد الصراعات العربية من أسبابها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، لم يكن مجرد صدفة طارئة، بل هو مشروع مدروس، هدف، ولا بد من الاعتراف من أنه نجح في حرف قوى التغيير العربية عن مساراتها الصحيحة، وشكل ذريعة تمكنت من شرعنة التدخل الخارجي، وأضفت عليه الصبغة الدينية بعد أن طعمته بالنكهة الوطنية المطلوبة. وهكذا وجدناه يستأسد في رفضه إعلان إفلاسه السياسي والفكري، ويستجير، عوضا عن ذلك بالفكر الطائفي ويتوسله، كي يسخره في مشروعاته المواجهة لتلك التي كان يدعو لها، ويبشر بها الفكر القومي، من أجل إجهاضه، أو تقليص النجاحات التي حققها.

من هنا، وبدلا من الاستمرار فيما نحن عليه اليوم، والإصرار على نفي مسؤوليتنا الذاتية المباشرة في استمراء النجاحات الضيقة الأفق، التي حققها الفريق الذي تبنى الفكر الطائفي، وروج، علينا الاعتراف بمسؤوليتنا التاريخية في الاستسلام لتلك الفئة التي حملت تلك الراية الموبوءة، ونشرت الجراثيم الفكرية التي احتضنتها بين ثناياها.

لذا، فما لم تتم تلك المصارحة مع الذات، والاعتراف بالخطأ، وما لم تتوفر الرغبة الصادقة في الانتفاض على تلك الذات ومعالجة الأمراض التي تفشت في صفوفها؛ فسوف تستمر الطائفية متغلغلة في صفوفنا، ومسيطرة على عقول نخبنا، ومن ثم يتحول أي حديث حول الخروج من أتون التخلف، أو التمرد على الواقع المتردي هو ضرب من الترف الفكري غير المجدي، والبذخ السياسي الذي يقودنا نحو الهاوية.