ما بدأ نزاعاً لغوياً وانتهى إلى حرب

النصب التذكاري لضحايا حرب استقلال بنجلاديش

...
...
...
...
...
...

إبراهيم المصري – صحفي وشاعر مصري


على طريق دكا ـ ساڤار وعلى بعد 33 كم شمال غرب دكا عاصمة بنجلاديش، ثمة موقع تحرسه الشرطة العسكرية للجيش البنغالي، ويشكل رمزاً رفيعاً ومؤثراً في نفوس مواطني بنجلاديش. إنَّه النصب التذكاري لضحايا حرب استقلال بنجلاديش "باكستان الشرقية" عن باكستان "باكستان الغربية" حتى عام 1971، وكان البلدان حتى ذلك التاريخ يشكلان دولةً واحدةً بإقليمين جغرافيين تفصلُ بينهما الهند، أي، لا اتصالاً بريَّاً بينهما، وكانت تلك الدولة هي ما استقلت عن الهند عقب زوال الاحتلال البريطاني عام 1947.
ونتيجةً لخلافات سياسية مزمنة بين الإقليمين، ولكارثة فيضانات أودت بحياة مئات الآلاف في "باكستان الشرقية" اندلعت حرب استقلال بنجلاديش يوم 26 مارس 1971 بقيادة الشيخ مجيب الرحمن، زعيم رابطة عوامي، والذي يطلق عليه البنغاليون "الأب ـ Our father" والذي دعا إلى المقاومة المسلحة ضد القوات الباكستانية، متهماً إسلام آباد، بعدم تمكين حزبه من تولي رئاسة الحكومة بعد فوزها في الانتخابات العامة، وبعدم عملها بشكلٍ كافٍ للتخفيف من كارثة الفيضانات، وأيَّاً كانت الرواية البنغالية لأسباب الحرب ومنها أسباب صراع لغوي بين الأردية والبنغالية، فإن الحرب بين "باكستان الشرقية" و"باكستان الغربية" استمرت تسعة أشهر، ورحجت الهند كفة الأولى بالمساندة العسكرية، حينما تدخلت يوم 3 ديسمبر 1971، وبعد ثلاثة عشر يوماً، أي يوم 16 ديسمبر 1971، انتهت الحرب بانفصال "باكستان الشرقية" التي أصبحت دولة مستقلة هي "بنجلايش ـ أرض البنغال"
تقول الرواية الرسمية البنغالية، إن ثلاثة ملايين بنغالي راحوا ضحايا حرب الاستقلال، فيما تُقدِّرُ مصادرُ أخرى عدد الضحايا بين ثلاثة ملايين وثلاثمائة ألف، خلال الحرب التي واجهت فيها "باكستان الغربية" مقاومة البنغاليين المسلحة بعملية عسكرية أطلقت عليها "عملية الضوء الكاشف ـ Operation Searchlight"  وأيَّاً كان عددُ الضحايا، فإنَّ منطقة ساڤار، كانت إحدى مناطق المواجهات الدامية، وهي المنطقة التي اختارتها حكومة الشيخ مجيب الرحمن عام 1972 لإقامة نصب تذكاري لضحايا الحرب، في الذكرى الأولى لاستقلال بنجلاديش.
يصل ارتفاع هذا النصب التذكاري إلى خمسة وأربعين متراً، ويقع في مساحة تصل إلى أربعة وأربعين هكتاراً، تضم النصب التذكاري، وقبور عدد من قادة حرب استقلال بنجلاديش، وحديقة أشجار قادة وزعماء العالم، الذين زاروا النصب التذكاري وزرع كلٌّ منهم شجرة باسمه في هذه الحديقة، ومن هؤلاء الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، الذي زرع شجرة باسمه عام 1984، والآن ترتفع الشجرة عالية ومورقة في المكان، فيما الشعب الفلسطيني لا يزال يعاني احتلالاً مدججاً بسلاحٍ نووي، ويسقط منه ضحايا كل يوم في الاشتباكات المستمرة مع قوات الاحتلال الإسرائيلي.
كنتُ من بين ستة شعراء وشاعرات استضافتهم مبادرة الشعر في بنجلاديش، في قمة دكا العالمية للشعراء 2018، من 28 يناير وحتى 6 فبراير 2018، وكان في برنامج الاستضافة "زيارة النصب التذكاري لشهداء حرب استقلال بنجلاديش".. وهكذا ذهبنا في رحلة عبر الريف البنغالي استغرقت نحو ساعة ونصف الساعة من دكا إلى ساڤار برفقة اللجنة المنظمة، ورئيس قمة دكا العالمية للشعراء، الشاعر البنغالي أمينور رحمن.
وكان أن وضعنا باقة وردٍ على النصب التذكاري، واقترحت الشاعرة الأمريكية الكاميرونية جويس آش، أن نسجل فيلماً قصيراً بكاميرا الهاتف المحمول، يقول فيها كل شاعرة وشاعرة كلمة بلغته عن المناسبة، تحدثت أنا بالطبع باللغة العربية، وقلت بما معناه، إنَّ النصب التذكاري يذكرني بشهداء بلدي، وبكل ضحايا الحروب في العالم، وطلبت الرحمة والسلام لجميع الأرواح الضحايا، بل وقرأت الفاتحة، لعلَّ فيها ما يهدئ ألمَ الذاكرةِ الإنسانية، التي لا تزال وستبقى مُثقلةً بالدم.

تعليق عبر الفيس بوك