"أتطلع لامرأة نَخْلة"

 

 

كانت تيك النخلة ديناميَّة مُحركة لدوافع الشخصيّة وانفعالاتها.. تعبَّد من خلال تلك الرمزية في محراب الحب، وفهم معنى العطاء والوفاء.

 

محمد علي العوض

 

من أجمل القرائح التي تمتلك ناصية توظيف الرمز وعُمق دلالاته الإيحائية في الأعمال الأدبية؛ قريحة الشاعر السوداني محيي الدين الفاتح، لا سيِّما في أيقونته الموشاة "أتطلع لامرأة نَخْلة".. فهي إن جازت التسمية سيرة ذاتية -عرضحال- تنتمي أبجديتها إلى الحبيبة/النخلة.

حطَّمت الرمزية التي بُنيت عليها مفاصل القصيدة أُطر اللغة، واتخذها الشاعر برزخا انطلق منه إلى عالم من التحليقات اللانهائية، وتشكيل الصور الفنية المتفاعلة مع الرمز؛ فالعلاقة بين الرمز والصورة الفنية علاقة تفاعل، تأثر وتأثير، جزء من كل. وبحسب محمد فتوح، فإنّ عُمق أبعاد الرمز هو ما يمنح الصورة البُعد الدلالي من خلال السياق الذي يضعه فيه الشاعر؛ أي أنَّ الرمز بشتى صُوَره المجازية والبلاغية والإيحائية يُعمِّق المعنى الشعري.

لقد وظَّف محيي الدين الفاتح في قصيدته التي بثّ فيها لواعجه في صورة فنية وجدانية رمزية النخلة وانعكاسها على جميع مراحله العمرية؛ الطفولية منها والناضجة، وكانت تيك النخلة ديناميَّة مُحركة لدوافع الشخصيّة وانفعالاتها.. تعبَّد من خلال تلك الرمزية في محراب الحب، وفهم معنى العطاء والوفاء.

استُهلت القصيدة بمشاهد ماضوية، رصدت الشاعر مُذ كان شبحا يحبو، يتفاعل في كل الأشياء، ويتساءل عن معنى الأسماء:

وأنا طفل يحبو

لا أذكر كنت أنا يوما

طفلاً يحبو

لا أذكر كنت أنا شيئاً

بل قل شبحا يمشي يكبو

***

أتفاعل في كل الأشياء

أتساءل عن معنى الأسماء

وعند وصول قطار الذكرى بدايةَ المرحلة التعليمية، وتفتح العقل، يراوح النص مكانه بين انفعالين متصارعين، سيظلان يلازمانه ما بقي حيا؛ الأول: هو الخوف، والثاني: انفعال الحب.

يُشكل انفعال الحب إحدى وحدتي القصيدة، وله عوامل مضادة أسهمت في إنتاج هذا الانفعال؛ وهي بحسب تراتبية القصيدة عامل (عريف الصف "الألفة") بجسده الضخم وقلة استيعابه (وأشار لأفخرنا جسداً/ أنْ كُن ألفة../ كان الألفة أتذكرهُ/ إن جلس فمجلسه أوسع/ إن قام فقامته أرفع/ إن فهم فأطولنا أصبع)، (من منّا خطأهُ الألفة/ كنا نهديه قطع العملة/ والحلوى لتقربنا منه زلفى).. وعامل الناظر (والناظرُ جاء/ وتلا قائمة الأسماء) وتصور القصيدة الناظر قاسي القلب عنيفا (لكن الناظر لا يرحم) يحمل سياطه التي تستمد شرعيتها من وصيّة الآباء للمعلمين (اللحم لكم والعظم لنا).

طفولة السوط الهاوي في الأبدان

ضرباً.. رهباً.. رعباً.. عنفا

***

نسيتنا الرحمة لو ننسى يوماً رقماً

أو نسقط في حين حرفا

ويظلُّ الشاعر حبيسَ الألم وشعور الخوف حتى بعد رحيل سنوات العمر، ليُصَارع خوفا آخر امتدادًا لخوف الناظر الماضوي؛ هو خوف السجن، ومصادرة الحريات؛ فتغدو الدنيا في نظره سجنا كبيرا ويغدو السجان مُعادلا موضوعيا للناظر:

وكدت أساق إلى الإيمان

أنّ الإنسان قد أوجد داخل قضبان

والبعض على البعض السجان

في سجن يبدو أبديا

فالناظر موجود أبداً

في كل زمان ومكان

أمَّا الانفعال الثاني في الوحدة الأخرى، فهو الحب؛ ففي وسط هذا الانفعال المشحون بتوتر الذات والخوف، تطل ثنائية النخلة/الحبيبة كضفّة ثانية من حياة الشاعر والقصيدة، ولتولد انفعالا آخر يضخ في الجسد ترياقا وبهجة، ولترمز للتعالي والتسامي فوق جراحات سياط الناظر والسجان:

إذ قامت في الضفة نخلة

تتعالى رغم الأنواء

تتراقص في وجه الماء

يَمْضِي قطار العمر، ويظل الشاعر مفتونًا بحب النخلة -صورةً ورمزا- إلى يوم الدين، وتغدو مثلا أعلى.. تجذبه الدروس التي تدور القصة فيها حول النخلة، يجد صلة ما بين وحيه البشري -إلهام الشاعر- والوحي المقدس إلى مريم عليها السلام:

ويظل بقلبي يترنم

الوحي الهاتف يا مريم

أن هُزّي جزع النخلة

في أروع لحظة ميلاد

وبعد غروب الأعوام، ووصول الشاعر لمرحلة البحث عن ضلعه الأيسر، يتخذ رمزية النخلة معيارًا:

أتطلع لامرأة نخلة

تحمل عني ثقل الدنيا

تمنحني معنى أن أحيا

وبالفعل، يجد الشاعر مُبتغاه؛ فكان اللقاء انزياحا لميلاده: (كان الميلاد/ وتلاقينا ما طاب لنا/ من عرض الأرض تساقينا/ وتعارفنا.. وتدانينا.. وتآلفنا.. وتحالفنا/ لعيون الناس تراءينا). كان اللقاء مُشتجرا، مشتبكا: (كخطوط الطول إذا التفت بخطوط العرض/ كوضوء سنته اندست في جوف الفرض..)، ترنيمة سعد تملأ صمت الشاعر عبر الأزمان، إكسير حياة بعد ممات.

لكن هيهات أن يظل العاشق مُترنمًا، والناي صادحا، فقد توقف نبض اللحظات والسنوات، لتنفرط كلمات الوداع كحبَّات عقد. اختفت المرأة/النخلة وخلَّفت وراءها: (جرحا يوري قدحاً.. يفلق صبحاً.. يبني صرحاً)، ومع ذلك بقي الشاعر على عهده؛ فهواها أضحى قيده الأكبر، ويظلان رغم الافتراق يلتقيان حِسًّا ومعنى:

في كل حكايا الأبطال

نتلاقى مثل الأشواق

تستبق بليل العشاق

اعتمدَ الشاعرُ في ترميزه على مبدأي الإيجاز والتعبير؛ فمن الإيجاز قوله:

نرمي حجراً.. تلقي ثمراً

حجراً.. ثمراً.. حجراً.. ثمراً

مقدار قساوتنا معطاء

دالًّا في هذه الأبيات لفضيلة التسامي ومقدار القسوة المعطاءة، ومصورا النخلة شجرة صندل تعطر فأس قاطعها، كأنه يتمثل بمقولة (كن كالنخيل عن الأحقاد مرتفعاً يُرمى بصخرٍ فيعطي أطيب الثمرِ)؛ فالبيت عند الشاعر قليل اللفظ جم المعنى بإيماءة دالة؛ وهذا يطابق معنى الرمز اصطلاحًا.

ويُعبّر الشاعر رمزًا عن معنى البراءة المطلة من عيون الأطفال لحظة السؤال، وتنزاح تلك البراءة إلى لقاءات الشاعر بالمرأة/ النخلة؛ والتي تحكمها العفة وعذرية الحب وبراءته من كل ما يدنس تلك العلاقة أو يطمس عفويتها، وعيون الأطفال هي كناية ولمحة دالة على البراءة:

نتلاقى في كل سؤال

يبدو بعيون الأطفال

وبرغم شط النوى وذهابها، فسيكون الشاعر لها كما قالت، وبقلبه أبدا أبدا ما زالت، وستظل المرأة/النخلة:

ريحاً للغيمة تدفعها حتى تمطر

ماءً للحنطة تسقيها حتى تثمر

ريقاً للوردة ترعاها حتى تزهر

تعليق عبر الفيس بوك