مناجم الذهب (الحلقة العاشرة)

مطرح

 

عائشة البلوشية

مسقط ومطرح توأمان كساهما الله تعالى من الجمال غموضه، ومن السحر أعجبه، ومن المِنعة قوتها، وعلى الرغم من اختلاف الطبيعة والبيئة بين محافظة الظاهرة ومحافظة ظفار، إلا أن فترة التدريب على اللاسلكي كانت فترة كافية لسبر أغوار هاتين المدينتين والوقوع في حبهما، وخصوصا "مطرح" في هذه الفترة، فبمجرد وصوله نسي ما كان من وعثاء رحلة العودة براً من ظفار، فاستلم مرقده في ذلك العنبر الذي يشاركه ثلاثون جندياً سكناه، وبدأ في التأقلم سريعاً لأنه مقبل على مرحلة جديدة وحبيبة في حياته، فاشترى لنفسه دراجة هوائية ليستطيع التنقل إلى مطرح ومنها، كما أنه اكتشف أنَّ جرس الدراجة يسرع من عملية حفظه للشيفرة، عندما يلتقي بأحد زملائه فيتبادلان التحية وبعض الكلمات باستخدام ذلك الجرس.

وقف متأملا إياها في أول زيارة، مطرح هذه المدينة البحرية الرائعة، هي من أهم المدن في التأريخ العُماني، إذ يعود عمرها إلى الألف الثالثة قبل الميلاد، تعبق في أجوائها روائح البهارات الكثيرة المستجلبة من بلاد الهند والسند وأفريقيا، المعروضة في حوانيتها بامتداد السوق، وتختلط بروائح الفواكه الموسمية كالأمبا والرطب والنبق وغيرها؛ كان في بعض الأيام وفي فترات الاستراحة يركب تلك العجلة الهوائية ليتوقف عند محل "دوست محمد" في "الطويان" ويرتشف "جدوية" عصير متلذذا باللومي المثلج مقابل بضعة آنات/ تكات/ بيسات، بحسب المتوفر لديه حينها (الجدوية هي مفرد جداوى وهي جرة صغيرة جدا من الفخار)، ثم يواصل سيره نحو مطرح لتستقبله تلك الروائح الشهية للطعام المطهو في المطاعم المنتشرة، المختلطة بروائح البضائع والفاكهة ورائحة الأسماك التي تم صيدها من بحر عُمان، ويعد سوق مطرح من أقدم أسواق السلطنة إذ يعود عمره لمئات الأعوام، ويتشابه مع الأسواق  القديمة التي يراها السائح في بعض البلاد مثل إيران والمغرب في أسلوب العمارة وطريقة عرض البضائع في الحوانيت، ويقال إنَّ تسمية مطرح بهذا الاسم جاءت بسبب وجود مرسى للسفن، حيث يقال (طرحت السفينة مرساتها) بمعنى رست ووقفت، وهناك قول آخر بأنَّ مطرح دلالة على طرح البضائع، كان يتسوق ويتجول ليتعرف على تلك المدينة الساحلية الجميلة، حتى اقتنى في أحد الأيام آلة تصوير قام بتجميع مبلغ لشرائها من راتبه البسيط، ويا للآلة التي اقتناها، جزء من حلم تحقق بشرائها، فأصبح يحملها معه ليلتقط الصور للمناظر التي يعشق توثيقها، ولصحبه في المعسكر أو في السوق.

 

لم يذهب إلى مطرح في ذلك اليوم وقرر أخذ القليل من الراحة على فراشه، فتناهت إلى مسامعه أصوات الغناء المنبعثة من سنطور (جرامافون /بشتخته) أحد الجنود في العنبر وهو يستمع إلى إحدى الأسطوانات، وسرح بعيدًا نحو الجنوب وتحديدا إلى "عقبة الياسمين" في جبال ظفار، فاسترجع كلمات لمست قلبه حينها (كلموني تاني عنك.. فكروني.. صحوا نار الشوق في قلبي.. وفعيوني)، صوت "الست" عندما كان ينبعث من الراديو في هدأة الليل عندما تتوقف الاشتباكات قليلاً، فتعصف الأشواق بقلب كل جندي مع ذلك الصوت الرائع إلى حيث أهله، ويتساءل هل لي من عودة؟ أم سأسقي تراب الوطن بدمي؟، فعاد إلى أرض الواقع وحمد الله أنَّه حي يرزق رغم الإصابة التي أثرت على ظهره، وأنه يمارس طقوس حلمه الحبيب؛ لتمضي أشهر التدريب الخمسة في بيت الفلج كالحلم السريع بآلامه وآماله، بنجاحاته وصدماته، بصعقات الأجهزة الكهربائية والملاريا الشديدة، وتأتي الأوامر بعودته إلى ظفار مجدداً في منتصف عام ١٩٦٩م تقريباً.

قرر أن يذهب في جولة على دراجته الهوائية إلى سوق مطرح ليشبع المآقي من تلك المناظر البديعة، ويوثق بكاميرته كل زاوية تستوعبها ذاكرة ذلك الفيلم البدائي، ذهب ليلوح إلى النوارس مودعًا وواعدا بعودة إن كتبت له النجاة ومد الله في عمره، وقبل أن يتوقف عند محل دوست محمد قابل أحد زملائه فما كان منه إلا أن استخدم جرس الدراجة ليرسل بشيفرة "مورسيه (نسبة إلى مورس)" محييا إياه بالسلام عليكم، فيرد زميله بشيفرة: وعليكم السلام إلى أين؟، فيرد عليه: إلى سوق مطرح، وهكذا يتبادل الاثنان الحوار بالشيفرة بطلاقة الآن، فيبتسم دوست محمد مع الواقفين ويرددون جميعًا والضحكات تملأ الأجواء: "ذروهم إنهم اللاسلكيون"، فيحس الاثنان بالفخر بأنهما يتحدثان بلغة فنية صامتة ناطقة لا يجيدها إلا القلة، فهذه اللغة فن في حد ذاته، أو كما يحلو للناطقين بالإنجليزية نعتها بـ "It' an art"؛ فيبتاع "جدوية" العصير الأخيرة ليرتشفها قبل الرحيل ويبقى طعم اللومي اللذيذ عالقًا في ذاكرة فمه، وينطلق نحو السوق فاتحاً مسام جسده وروحه لتعب من ذكريات المكان عبا.

(يتبع)..

_________________________________

توقيع: ‏"إِذا هجرتَ فمن لي؟‏ وَمَن يُجَمِّلُ كُلّي؟

‏ومن لروحي وراحي؟‏يا أَكثري وأقلّي.

‏أحبَّكَ البعضُ منّي‏ وقد ذهبتَ بكُلّي.

‏يا كلَّ كُلّي فكُن لي ‏إِن لم تكُن لي، فمن لي؟

‏يا كُلَّ كُلّي وأهلي ‏عندَ انقِطاعي وذُلّي

‏ما لي سوى الروحِ خُذها ‏والروحُ جُهدُ المُقِلِّ". ‏

‫الحلاج