حمد العلوي
لست مع الإفراط الذي تنتهجه بعض الدول في الانفتاح الاقتصادي، وضد التفريط الذي يهدر فرص التنمية الوطنية ويعرقلها، وخاصة إذا كان هذا التشدد والتجمُّد ليس نتيجة الحرص على الأمن القومي للوطن، ولو كان كذلك لما مُلِّك الوافدون عقارات وأراض عُمانية حتى لو بضمانات، لأننا لسنا من الدول الكبرى المهاب جانبها، والتي تستطيع فرض إرادتها وقانونها في داخل بلدها وخارجها، ولو بقوة السلاح متى تطلب الأمر، وليس في هذا تشاؤم مفرط من بعض القرارات، وإنما هناك وقائع ماثلة للعيان تشهد عليها فلسطين المحتلة، وسنغافورة المنفصلة، ولن تكون تيمور الشرقية آخر المطاف لإرادات القوى الكبرى، وسأظل أطرح وجهة نظري المعارضة لتمليك الوافدين عقارات وأراضي عُمانية، وأقول نعم للتأجير العادل بهدف الاستثمار.
ولنعود إلى موضوعنا ألا وهو الإفراط في العُقد وهدر الفرص الاستثمارية، وهنا بطبيعة الحال لا نتكلم عن المشاريع الاستثمارية التي تقودها الحكومة، وترعى سيرها وتشرف على تنفيذها بنفسها، كميناء الدقم مثلاً الذي خصص له رئيس تنفيذي بمرتبة وزير، فهو يحل عُقدها ويُمهِّد مسارها، مع ظني الجازم أنه لن يجد الطريق أمامه مفروشاً بالورود؛ رغم قومية المشروع وقيمته الإستراتيجية، لكن كلامي يدور حول العراقيل التي تتعرض لها المشاريع الصغيرة والمتوسطة، التي وإن دُعم بعضها من قبل الحكومة إلا أنها تُطحن بالعُقد والرسوم والضرائب الفاحشة، فهي تئن تحت وطأة تخطيط بليد متخلف عقيم.
وإن نجح البعض وقد يكون بالحظ أو بالحط في اليد القذرة الممتدة في الظلام، وهذه الأخيرة أصبحت تمثل أسلك الطرق والممرات غير السويّة للحصول على المبتغى، حتى دعا الأمر ببعض الناس أن يطلب الفتوى الشرعية فيها، لاهتزاز ثقته بنفسه بعد كل الذي سمعه ورآه رأي العين، وقد لا يعلم أنّه لن يحصل عليها مطلقاً؛ أي الفتوى إلا بالضد، ولكن نمو الرشوة وازدهارها في ظل العقد المستحكمة، قد دفع البعض للظن بمشروعيتها، أو كما يقول قائل "مشيِّ حالك والآخرة مستأخرة".
إنّ التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وحتى الثقافية والسياسة تحتاج إلى عقول نظيفة مخلصة، ولا أظن أن هناك شُحَّا في عدد المخلصين المقتدرين على قيادة التطور والتقدم في البلاد، فقط نخرج من دائرة الاستقطاب المَصْلَحِي واللوبيات النتنة، فما انتهينا من زمرة حتى أتتنا أخرى، لأن هذه اللوبيات ضررها أكثر من نفعها، وأن نتخلص من المسؤول التاجر، والمسؤول الأوحد صاحب القدرات الفولاذية الخارقة، لأننا حتى لو حاولنا نقنع أنفسنا بأن هناك أشخاصاً أصحاب خوارق من بين هؤلاء المسؤولين فواقع الحال يقول عكس ذلك؛ لأننا وببساطة لا نرى أثراً للتميز الذي تم نسبه إلى ذلك المعجزة، وإنّما أصاب فكرهم العقيم هذه الدولة بالهرم والشيخوخة، كما قالت الكاتبة عائشة السيفية وآخرون غيرها بالطبع.
وإنّ من ينظر اليوم إلى قدرات بعض المسؤولين، يرى أنهم يمثلون أحد أرباع الكفاءة لقدرات أولئك المسؤولين الذين كانوا في الوظيفة قبل عشرين عاما مضت، وكان الأجدر بهذا المسؤول اليوم أن يكون أكثر تطوراً فكرياً وعقلياً وقيادياً ومنهجياً، لأنّه في واقع الحال قد أتيحت له فرص كثيرة لم تتح لسابقيه، وإنه قد توفرت له إمكانيات ووسائل لم يحصل سابقوه على عُشرها، لذلك كمواطنين يحق لنا أن نتساءل إلى أين نحن ذاهبون؟! فهل إلى تقدم منشود، أم إلى جمود وتوقف وتحنُّط إن لم تطاوعنا النفس القول بالتخلف والتراجع؟!
أنّ الأمر الغريب الذي لا نجد له تفسيراً واضحاً، ألا وهو سحر المنصب الذي غيَّر نفسيّات البعض، فمن كُنت تراه أخاً عزيزاً قريباً بالأمس، رفعه المنصب عنك فجأة أربعين قامة في الهواء، فمن كان هذا شأنه كيف له أن يقترب من الناس، وأن يفهم متطلباتهم الضرورية وليست المترفة، وفي المقابل ترى مسؤولين لم تغيّرهم المناصب، وإنما المسؤولية جعلتهم أكثر رسوخاً في الأرض، لأنّهم علموا تماماً حجم التكليف الذي يسبق السُّلطة والنفوذ، لذلك زادتهم الوظيفة تواضعاً ومحبة للناس والوطن، وخجلاً من قائد البلاد المفدى إن هم أخلُّوا أو قصَّروا في واجبهم الموكل إليهم.
أنّ الوطن يبحث عن الإنسان الذي يُعطي بلا كلل أو ملل، سواء كان مسؤولاً رفيعاً أم خفيراً في أدنى سلم الوظائف في الدولة، والدولة مصطلح يتجاوز الحكومة إلى غيرها في محيط جغرافية الوطن، ونظرتنا إلى المسؤول الذي يسعى للتبسيط وحل المعضلات، فقد شبعنا بل وكرهنا ذلك المسؤول الذي يبحث عن العُقد والتعقيد، وليس له هم غير النكد والقهر وتحبيط العزائم وإذلال الناس، فيصبح شؤماً مجرد ذكر اسمه ورؤياه، وقد لاحظنا تغيراً ملموساً في جيل الشباب من صغار الموظفين.
إنّ جلالة السلطان قابوس المعظم - حفظه الله ورعاه - لم يبخل بشيء على هذا الوطن، وقد أفنى العمر سهراً على رقيه وتقدمه، وجعل نصب عينيه الرقي بفكر المواطن العُماني الذي هيأ له كل سبل للعلم والمعرفة، بل وحثّه على البحث والتفكر والتدبر، وكفل له ألا تُمَس حريته ما لم يتجاوز على حدود غيره، وحتى أولئك الذين كانت لهم شطحات ونزوات لم يقسُ عليهم، بل قال لهم تعالوا نبني عُمان معاً يداً بيد، فعلى عكس آخرين الذين علّقوا المشانق لمخالفيهم في الرأي، إلا أننا نجد أنفسنا اليوم في حيرة من البعض، فرُغاؤهم أكثر من عملهم، ومناكفتهم للحقيقة لم تعد تقنع شعباً وطنياً مثقفاً لا يقبل بأنصاف الحلول، ولا يقبل بالتهميش والتكفير نيابة عنه، ولا تلجمه الشعارات الرنانة بالوطنية مهما نُمِّق لونها ولحنها، فوعي الناس أصبح سابقا لوعي بعض المسؤولين التقليديين، فضعف وعيهم جعلهم يقدمون المصلحة الشخصية على خدمة الوطن.
فمتى سنرى تغيّراً في الصفوف الأولى والثانية والثالثة؟! وهم ثلاثية أركان القيادة في الدولة، فتحل عقداً كثيرة حاقت بالوظيفة العامة، وقد خيَّيَت التنمية ومنعت التطور والتقدم، فكان انعكاس أثرها سلبياً على تقدم النهضة وتطورها، وخاصة في الثلاث السنوات العجاف التي مرت بها البلاد، فانعكس سوء التخطيط على إدارة الأزمة باقتدار، وقد ظهر اليوم ذلك الضعف والارتباك، وهذه مخاطر قد حذّر منها جلالته - أعزّه الله - ببصيرته النافذة من الوقوع فيها، وذلك في منتصف ثمانينيات القرن الماضي، وقد حُمّل المواطن أمورا فوق طاقته، نتيجة إخفاق قيادات ظلت نائمة في عسل النفط، فلولا تقدير المواطن وحبه لجلالة السلطان قابوس المعظم - حفظه الله وأمد في عمره وأبقاه - لعبَّر عن امتعاضه بشيء من القسوة، وليس من الحكمة الاستمرار في الضغط واختلاق صنوف الضرائب والرسوم، لأنّ الإنسان ينظر حوله، فيرى انفراجات اقتصادية، ولكنّه لا يرى أثرها عليه، مع غياب للشفافية وتراكم الغيوم في الأفق، والحقيقة الأمور مبشرة بالخير، غير أنّ المصارحة مفقودة.