مفهوم الوَحدة

أ.د/ محمّد بن قاسم ناصر بوحجام
رئيس جمعيّة التّراث، ولاية غرداية، الجزائر

 

قال الله تبارك وتعالى: واعْتصِمُوا بِحَبْل الله جَميعًا ولا تَفَرَّقُوا آل عمران/ 103) وقال الرّسول صلّى الله عليه وسلّم: "مثل المؤمنين في توادّهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسّهر والحمّى".. هذان الأثران يبيّنان ما يجب أن يكون عليه المسلمون في علاقاتهم فيما بينهم. إنّها علاقة التّضامن والاتّحاد، والتّآلف والتّكاثف. عليهم أن تكون قلوبهم متآلفة، كلمتهم جامعة، صفوفهم متماسكة.
إنّ ائتلاف القلوب، وتوحيد الصّفوف، واجتماعَ الشّمل، ووحدة الرّؤية، وتوحّد المشاعر... يُعدّ كلُّ ذلك الدّعامة الأولى لبناء المجتمع المتماسك، والرّكن الأساس أو الشّرط الأوّل لبناء الأمّة القويّة، وضمان استمرارها فاعلة مؤثّرة، بعد الاطمئنان على ثباتها وصمودها أمام كلّ التّيّارات الجارفة والعواصف الهوجاء والقواصف الحارقة الموجّهة نحوها.. والوقوف أمام كلِّ طغيان وعدوان وقهر وسطو وظلم..تتعرَّض له أو تُبتلَى به...قيل: "ولئن كانت كلمة التّوحيد باب الإسلام، فإنّ توحيد الكلمة سرّ البقاء فيه والإبقاء عليه، والضّمان الأوّل للقاء الله بوجه مشرق وصفحة نقيّة.".
إذن، إنّ الإسلام يبقى، والوطن يتحدّى، والمجتمعَ يتماسك، والعدوَّ يندحر، والمكر يندثر...حين تتوفّرُ الوحدة بين أفراد الأمّة الواحدة، وتنتشر المودّة بين فئات المجتمع الواحد، ويسود الوئام بين طبقات الشّعب الواحد،، ويعمّ السّلام بين المتجاورين في تراب واحد...قيل: " الله واحد، والنّبيّ واحد، والقرآن واحد...فَلِمَ  الخلاف؟؟"
ما أحوجنا إلى الوَحدة في زمن المكائد والدّسائس..وما أحوجنا إلى التّوحّد في خضمِّ المؤامرات والمناورات..ما أحوجنا إلى التّجمّع في عصر التّكتّلات والتّحالفات..ما أحوجنا إلى الالتفاف حول المخطّطات الموحّدة لصفوفنا، والمنظّمة لحياتنا في دوّامة المشروعات المشبوهة والمدغولة..
ما تمسّكت أمّة بالوحدة إلاّ قويت شوكتها، ودام عزّها، واستمرّ وجودها. وما تفرّقت وتشتّتت واختلفت إلاّ ضعفت ووهت وهانت وذهب ريحها، وزالت هيبتها، واندثرت وانقرضت. قال تعالى: ولا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وتَذْهَبَ ريحُكم واصْبِرُوا إنّ الله مَعَ الصَّابِرين الأنفال/ 46) بل إنّ توحيد القلوب والمشاعر، من أوكد واجبات المؤمنين، ومن ألزم فروضهم؛ لأنّها تعاليم إسلاميّة، وأوامر إلهيّة، قال تعالى: إنّ هَذِهِ أُمَّتُكُمُ أمّةً واحدة وأنا رَبُّكُمْ فاعْبُدُون الأنبياء/ 92) وقال: إنّما المؤْمِنونَ إخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بينَ أَخَوَيْكُمْ الحجرات/10)
إنّ وحدة المسلمين ضرورة إيمانيّة، كلّ من فرّط فيها فقد فرّط في جزء من إيمانه. فليحذر المتهاونون بها، والمتلاعبون بمشاعر المسلمين، والمتاجرون بكلمة التّوحيد. ألا فليعلموا أنّ وَحدة الصّفّ مطلب شرعي وضرورة حياة..
إنّ التّشريعات الإسلاميّة نفسها تعطينا هذا المعنى وهذه الدّلالة، وتحدّد لنا أحد أهداف العبادة.. إنّه بوضوح واختصار: تربية النّفوس على الوَحدة، وعلى الائتلاف. إنّ الصّلاة في وقت محدّد، وإلى قبلة واحدة، والاصطفاف وراء إمام واحد، والتّكبير تكبيرة واحدة؛ إعلانا على الشّروع في الصّلاة.. والزّكاة التي تؤخذ من الأغنياء وتعطى للفقراء، بشكل متساوٍ مع كلّ فئة تتوافر فيها شروط معيّنة، من دون تمييز.. وصومَ المسلمين جميعا في وقت واحد في اليوم وفي السّنة.. والحجّ المؤتمر الإسلامي الذي يحضره المسلمون، الذين يأتون من كلّ فجّ عميق، ويقبلون من كلّ بلد سحيق، ويؤدّون شعائر واحدة، ويرتدون لباسا موحّدا... كلّ ذلك وسائل للتّوحّد والتّآلف، وإشعار بالرّوح التي يجب أن تسود الأمّة الإسلاميّة، وهي روح الوَحدة..هذا ما يجب أن يستحضره المسلمون وهم يزاولون العبادة. وما يفرض عليهم أن يلتزموا به، وهم يشرعون في تأدية الفرائض.
هذا الالتزام بهذه التّشريعات هو عين العبادة، والتّربية وتحسين السّلوك النّاتج من أداء تلك الفرائض هما المقصد الأوّل من ممارسة ما تُعُبِّدْنَا به.. من هذه المقاصد نشر الوَحدة بين صفوف المسلمين، مثلما تكون بين صفوفهم في الصّلاة، ومثلما تكون بينهم وهم يؤدّون أو يقبضون الزّكاة، ومثلما يتمتّعون به من شعور واحد وهم يصومون(أو يجب أن يشعروا بذلك إذا أدّوا الرّكن أداء صحيحًا)... أفلا يكون في القيام بشرائع الله مجال لتثيبت الوَحدة في القلوب والنّفوس والسّلوك؟؟
نتساءل بعد ذلك، كيف نجسّد الوَحدة في حياتنا العمليّة؟ وكيف نصل إلى تحقيق هذه الغاية وسط المتغيّرات التي تحكم العالم؟ ومع ضعف المسلمين وتخاذلهم؟ وَفقَ المفهوم الحقيقي للوَحْدة؟
إنّ ما يحقّق ذلك هو الوعي بأن التّآخي هو الذي يمنع العدوان على المسلمين، وأنّ الانضمام إلى الجماعة والاحتماء بها هو الذي يصون الذّات، ويحميها من التّعدّي عليها. قال الرّسول صلّى الله عليه وسلّم: "يد الله مع الجماعة، إنّما يأكل الذّئب من الغنم القاصية"، وأنّ الانتصار إلى بعضنا يقوّي نفوسنا، ويدعم هيبتنا، وأنّ ضمّ جهود بعضنا إلى بعض، يجعل منّا قوّة فاعلة مرغوبة ومرهوبة.
الوَحدة تعني أن يحمي قويّنا ضعيفنا، وينفع غنيّنا فقيرنا، ويعطي الموسر منّا المعسر فينا، ويخفّف المعافى منّا عن المهموم، أن يرحم الكبير منّا الصّغير، في جميع الأحوال والمستويات، ويوقّر الصّغير منّا الكبير، أن يعلّم العالمُ منّا الجاهل..
الوَحدة تعني أن نتعاون على مستوى القمم والدّول والأمم، نتكامل اقتصاديّا واجتماعيّا وثقافيّا وسياسيّا... وأن نجعل في الإفادة ممّا عند الآخر منّا هدفا نسعى إليه، نحن أبناء الأمّة الإسلاميّة؛ أفرادا وجماعات ودولا. لا نلتجئ إلى غيرنا وعندنا ما يعزّز مكانتنا ومكاننا، ويدعم استقلالنا وحرّيتنا.
الوَحدة هي التّكامل الذي يكون بيننا، هي التّآزر والتّعاون اللّذان يحصلان فينا، هي الوقوف صفّا واحدا كالبنيان المرصوص أمام هجوم غيرنا علينا؛ في ديننا ومصالحنا وثرواتنا، والسّطو والاعتداء على أراضينا وترابنا، بأيّة حجّة كانت. هي الإشعار بأنّنا لا نقبل المساومة فيما يخصّنا، وعدم السّماح والقبول بمن يرسم لنا طريقنا، ويحدّد أهدافنا، ويخطّط مناهجنا، ويسيّر مصالحنا. هي المعاهدة على الدّفاع عن كلّ مَنْ يُـمَسّ، وكلّ مَنْ يُداس، هي الكفّ عن إعانة العدوّ على بعضنا، مهما يكن نوع هذه الإعانة...
يحتاج أحدنا أو إحدى دولنا إلى خيراتنا ومقدّراتنا، فنغفل عنه أو عنها، ونفيد بها غيرنا، ليحاربنا بعد ذلك به. يكون لدى من ينتمي إلى أصولنا ومبادئنا ما نفيد منه، نتركه ونستعين بغيرنا؛ لنظلّ له تابعين وخاضعين.. هذا السّلوكُ منافٍ للوَحدةِ، بل هو مجهزٌ للطّاقات ومخرّب للبيوت من داخلها..
هذه هي الوَحدة التي تبنّاها أسلافنا وهم يخطّون سبيلهم ويخطّطون مناهجهم، ويشقّون طريقهم بكلّ قوّة وثقة، ويضعون مشروعاتهم بكلّ اعتداد، وهي التي لقّنهم الإسلام إيّاها؛ فبنوا وشيّدوا، وحكموا وسادوا، وعلّموا وثقّفوا، وحَـمَوْا وحصّنوا...
هذا هو مفهوم الوَحدة الذي يرجع للمسلمين مكانهم، ويعيد إليهم عزّتهم، ويُبقِي على حظوظهم في سيادة العالم، كما كانوا من قبل، ويبعد عنهم الذّلّة والمهانة، وينفي عنهم الخمود والاستكانة. وينأى بهم عن الاستجداء والاستخذاء. بمعنى أوضح وأصرح وأرسخ..إنّ الوَحدة، تكون في تلاقي المشاعر والمصالح، وفي الإخلاص لبعضنا، وحبّ الخير لأنفسنا، وخدمة بعضنا، والدّفاع عن أنفسنا وقيمنا ومقوّماتنا؛ متّحدين متكاثفين متآزرين.... هدانا الله لتوحيد صفوفنا وجمع كلمتنا، وتأليف قلوبنا وإصلاح ذات بيننا، ووفّقنا إلى فهم حقيقة الوَحدة، ووعي دلالاتها؛ وسط المتغيّرات التي تحكم العالم، وتسيّر شؤونه..ثمّ الاهتداء إلى تطبيقها في الميدان أحسن تطبيق..
قال مفدي زكريّاء في الفترة الاستعماريّة البغيضة للجزائر، وهو يحدّد بعض ملامح الوَحدة، ويكشف عن مظاهرها، ويبرز عوامل تجسيدها:
نـَحْنُ في هَذِهِ الـجَزائِرِ إِخَوانٌ، جرَاحاتُنا الثّخينَةُ حَـمْرَا
لُحْمَةُ الضّادِ وَالعُروبةِ  والتّاريخِ والدّينِ آيُ رَبِّكَ كُبْرَى
وَهَواها، ومَاؤُهَا، وسَـماها وَثَراهَا الزَّكيّ ُ شِبْرًا فَشِبْرا

كتبت قصيدة، عنوانها: وَحدةُ الصّفّ مطلب شرعي وضرورة حياة.. هذه أبيات منها:  

وِحــــدةُ  الصّـــفِّ  مَطلـبُ  وَبِــهِ الخــيرُ يُجلبُ
وَحـــدَةُ الصّـــفّ  مَنهــــجٌ وَبِـــهِ الـــوُدُّ  يُكسـبُ
وَحـــدةُ الصّــــفّ مَــغنــــمٌ  وَبِـــهِ الدُّنيـا تُطلـبُ
وَحـــدةُ الصّـــفّ مَـــركـــبٌ وَبِهِ الأخرى تَعـذُبُ
...نَرْتَقِــي مِـــنْ  مُسِتَنْقَـــعٍ يَحْكُــمُهُ  التَّمَــذْهُــبُ
بَـرْبَــرِي أَنْــتَ، أَمْ إلــَى فِئَـــةِ العُــرْبِ تُنْــسَــبُ
فَأَبُــوكَ ديــنٌ حَـــبَــاكَ بِــهِ الــــرّبُّ الأطْــيــــَبُ
أُمُّــكَ حِــضْنٌ فِي تُــــرابِ (الجَــزائِـرِ) أَرْحَــبُ
وَأَخــوكَ فَــرْدٌ لِحُــسِـــــ  ـــنك دومًـــا  يَـطـْــلُبُ   
(حَنَفِـــي) أَنْتَ، أَمْ (إِبَــا ضِي)، لِماذَا التَّعَصُّـبُ؟
(مَالِكي)، (شِيـعِي) أَنْتَ، مـاذَا يُفيـدُ التَّمَـذْهُـبُ؟؟
إِنْ جَــفَوْتَ أخَـــاكَ، أَوْ جــاءَ مِنْــكَ مَا يُغْضِــبُ
(حَنْبَلِي) أَنْتَ، أَوْ إِلَــى (شافِعِي) لَــكَ  المـشـرَبُ
كُــنْ وَفِــيًّا لِوَحْـــدَةٍ فبِـــها يَـــزْكُــــو المَــوْكِــبُ
كُــنْ رحــيمًا بصُحْــبَـةٍ فَبِـــذَا يَنْجُــو المَــرْكَــبُ
فَلِــمَ الخُـلْفُ  بَيْنــَنَــا؟ وَالهُــدَى فــينـا  يُسْكــَــبُ
فــي كُـــؤُوسٍ  مَخْــتُومَـــةٍ بِرَحــيـقٍ يُسْتَــعْــذَبُ
نُــورَ رَبٍّ مُنـــــَزَّلاً فـــي كـــتــــابٍ لَيَطْـــلُـــبُ
وَيُنـادِي، كُــونُوا صِحَـا بًـا، رِفـاقًـا, لا تَشْـغَبُــوا  
مِنْ ذَكَـــرٍ وَمِـــنْ إِنَـــــا ثٍ خُـــلِقْنَــا يــا يَعْــرُبُ
وَشُعـــوبًـــا، قَبــــائــــلاً يــامَـــزيــغٌ، لَنَــغـــلُـبُ
كُلَّ جَـــانٍ، مُسْتـــهْــدِفٍ وَحْـدةَ الصَّـفِّ، نُرْعـبُ
إِنّمَـــا المُــؤْمــنــون إخْـــ وانُ ديــــنٍ أَقــــــاربُ
فَــلمـــاذَا تَكـــونُ فيـــــ هِـــمْ فِئــــاتٌ عَــقَـــاربُ
أَوْ أفــاعٍ، أوْ يخْــتلِــي بَيْــنـــهُم ذئــبٌ، يَنْــصِـبُ
أَوْ يَــروغُ في رَبْعِـــهِـمْ مِثْلَـــما يَسْطُو الثَّعْلَـبُ
فَالجُــهـــودُ تُـصَـــبُّ فـي مَــا يُـفيــدُ وَيُــنْجِــــبُ
والقُـــوَى لِلبِـــناءِ تُــزْ جَـــى، ولِلنَّفْـــعِ تَــذْهَـــبُ
والجِــهـادُ إلـــى  الصّــلا حِ يُــســاقُ ويُـسْحَـــبُ
وَعَـنِ البَــغْـيِ  يَخْــتَفِـي وَعَــنِ الشّــرِّ  يُحْـجَــبُ
ذَا الصّــوابُ لِمَـنْ يَعِـي ما عَلَى المهْدِي  يَعْـزُبُ
نحـــنُ فــي هَـذِهِ (الجـزا ئرِ)، إخــوانًـا  نُحْسَـبُ
وبــديــــن، ســـنــامُـــه لِلــمُـــهَــيْـمِـــنِ أَقْــــرَبُ
مَــنْ يُــنــادِي بِــوَحْـــــدَةٍ لِلـمُـــهَــيْمِـنِ أَقْـــــرَبُ
... وَحْـدَةُ الصَّـفِّ واجـبُ اِحْـذَرُوا مِنْكُـمْ تُسْـلَـبُ
وَحْــدَةُ الصَّـفِّ جــوهــرٌ وَزْنَـها يَـدْرِي الطَّـيِّــبُ
إِنَّمَـا العَـيْـشُ فـي وِئَــا مٍ، هُــوَ النَّـهـجُ الأَصْـوَبُ
فـإلـى اتِّحــادٍ متيـــــ ــنٍ، بــهِ يـنجــو المــركــبُ

تعليق عبر الفيس بوك