القابلية للنهوض بالإنسان في بناء الأوطان

د. فيصل المسكري

أن تسرد عليك سيرة شعب وحضارة ليس كمثل أن تعايشهما بروحك وجسدك، فالتاريخ الحقيقي يصبح مادة دسمة خالية من أية مصادرة فكرية للأجيال المتعاقبة واللاحقة، ولكن دسامتها تكمن في أن تكون جزءاً مهما من أحداث هذا التاريخ الحضاري العريق لأن ذلك لا يحصل إلا لبعض من قدر له أن يعيشها ويحياها، وإذا كان التاريخ كما يقال هو المرآة العاكسة لحياة الشعوب في المكان والزمان إذن لا غرو إن قلنا أن - مجان أو مزون أو عمان أو سلطنة مسقط وعمان آنذاك أو- سلطنة عمان اليوم أصبحت مركزا حضارياً استراتيجياً نشطاً تفاعل منذ القدم مع مراكز الحضارات في العالم القديم بل والحديث هو بلد له من التاريخ المتأصل الضارب بجذوره في صميم عمق التاريخ ويحمل في طيّات السنين فكر وإبداع الإنسان الذي نشأ بين جغرافية هذه الحضارة على مر الأزمنة والعصور الممتدة والذي ننتهي بوصفه بالإنسان العماني.

لذلك فإنّ تسليط الضوء على حقبه تاريخية معينة كأن يكون التركيز على جزء من حضارة عمانية ممتدة كجزئية تميزت وتفردت واكتسبت ملامح خاصة دالة عليها مكتسبة فيما مجمله يشكل عنصراً مكملا لإنجازات الإنسان العماني القادر على إضافة كل ما هو جديد بشكل تراكمي عام بعد عام مهما تعقدت أمامه التعقيدات، فكانت الحظوة في أن تصبح التجربة العمانية رائدة بكل ما تحمله الكلمة من معنى، فبات من الأهمية إيلاء ضرورة قصوى للإنسان العماني وتمكينه لا تركينه كونه سيد الموقف القادر على النهوض بالبناء من أجل غد مشرق.

ولست هنا اليوم حقيقة بمقالي الاجتهادي بصدد تكرار وتعداد ما تفضلت به الحكومة الرشيدة من جهود جبارة مضنية ومشرفة في سبيل الارتقاء بالإنسان وبناء الوطن في توفير شتى مقومات العيش الكريم، فذلك أمر ساطع سطوع الشمس وجلي للعيان ولا يحتاج إلى شهادة شاهد من أهلها أو غيرها، وإذا كانت الأمور تقاس اليوم بنتائجها فإنّه يمكن القول بصوت مسموع وعلى الملأ بأنّ ما تحقق على هذه الأرض الطيبة خلال الأعوام المنصرمة ما هو إلا توفيق حباه الله لهذا البلد الطيب، وهنا استذكر قول حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم - حفظه الله ويرعاه- "إنّ هدفنا السامي هو إعادة أمجاد بلادنا السالفة، هدفنا أن نرى عمان وقد استعادت حضارتها الآفلة وقامت من جديد واحتلت مكانتها العظيمة"  إذن هذه وتلك الإنجازات العظيمة المتتالية سطرتها صفحات التاريخ بكل فخر واعتزاز، وإن كان من قول يؤخذ به فهو ضرورة إيلاء أهميّة أكبر وأشمل لتنمية الإنسان واستثمار طاقاته وذلك من خلال تحسين وتجويد التعليم والتدريب المهني والتقني وتوفير الفرص الواعدة بما يؤدي ويبعث على تراكم الخبرات وإكساب المهارات وتقوية القدرات وتبسيط الإجراءات وتمكين الذات من تسيير ما هو منوط بكفاءة عالية في مختلف المجالات.

وليس ببعيد عن القارئ الكريم أنّ هناك دولا وشعوبا لا تتمتع البتة بموارد طبيعية زاخرة، ولكنها استحضرت الطاقات واهتمت وعنيت بالإنسان فوجهت بوصلة تخطيط التنمية إلى الوجهة العلمية والعملية الصحيحة التي لا مناص عنها اليوم وشمرت عن سواعدها ورفعت أشرعة الجد والاجتهاد لا بانتظار الفرج وإنّما لاقتناص الفرص وخلقها بما يتفق مع المبدأ الذي رسمته وهو الإنسان من أجل صقل مواهبه وتزويده بالخبرات الفنية والتقنية العلمية القادرة على مواكبة ومواجهة المتغيرات والمستجدات على الساحة المحلية والإقليمية والعالمية، فكان نتاج ذلك أن تفجرت طاقاته الكامنة وبرزت إبداعاته الناجحة وظهرت ابتكاراته السانحة وعمّت اختراعاته البشرية وذللت صعوباته المتباينة واتت أكلها كل حين، فكانت حصيلة ذلك خيراً عميماً على مجتمعاتها بل كان سعيهم سعياً مشكورا، وبالإنسان الذي هو أساس كل مجتمع عصري ناجح ومتطور استطاعت هذه الشعوب أن تتبوأ أسمى المراتب والسمو لما لديها من القابلية للنهوض بالرأس المال البشري المعول عليه في بناء الأوطان وأن تكون في مصاف الدول معلنةً بذلك تواجدها العملي وحضورها العلمي.

وفي المقام تعيدني الذكريات إلى الثلاثين من نوفمبر لعام 1993م عندما تفضل جلالته - أعزّه الله - بمناسبة بدء التعداد العام للسكان والمساكن والمنشآت قال "التقدم والازدهار في الأمم والشعوب لا يقاس بكثرة السنين والأعوام ولا بتحقق الغنى ووفرة الأموال وإنما يقاس ذلك بالعزائم الوقادة المستنيرة"، وقال أيضًا حفظه الله "إنّ الشباب العماني المتشوق إلى آفاق المجد مدعو اليوم إلى أن يتخذ من أجداده الميامين قدوة طيبة في الجد والعمل والصبر والمثابرة والعزم المتوقد الذي لا يخبو ولا يخمد"، وإنّه من الأهمية بالإضافة إلى ما تقدم أنّ الشباب اليوم مدعو ليتبوأ مكانه من أجل  المشاركة والمساهمة الجادة والمخلصة لبناء غده المشرق. 

ومما لا شك فيه إنّ لنا هنا وقفة جديرة بالاهتمام والتأمل هو التميز والتفرد في نسيج النموذج العماني ذي السبعة وأربعين عاما منذ انطلاقته نحو النهوض والحداثة والارتقاء؛ حيث إن الفكر الحديث في السلطنة منبعه قيادته الحكيمة المتنورة التي جمعت الفكر والحكمة أساساً لصياغة التخطيط المدروس للرقي بالإنسان والمحافظة على كيانه، وما هذا إلا نموذج يحتذى به وليس مـن المبالغة فـي شيء القول إن مشاريع التنمية الشاملة التي تعم اليوم مختلف أرجاء عمان وتنتشر فـي جنباتها المتباعدة وفيافيها المتواصلة ما هي إلا تلاقح للأفكار في مهمات متصلة بحياة الإنسان وما هي إلا محصلة لنتيجة أخرى للتخطيط الواثق الذي رسمته القيادة الرشيدة وذللت له كافة السبل والمعينات ووطأت له كافة وسائل الدعم فأتت أكلها بنتاجات رائدة ومبشرة  بالخير العميم وواعدة بتحقيق غاية جليلة هي استثمار الإنسان ورخائه ورقيه وتقدمه، ومع اكتمال منظومة أركان البناء في الدولة العصرية أضحى الحفاظ على تلك المكتسبات والمقدرات والإنجازات التي تحققت بنضال وبفضل من الله ومن سبق، السهر على تنميتها مسؤولية وواجب وطني ذي قابلية مشتركة المبدأ لا يستثنى منها فرد وهي حقيقة جلية يجب أن يعيها كل مواطن ويعمل فـي ضوئها كل مسؤول مخلص، وأنّ التنمية بمختلف مسمياتها وتشعباتها غاية في حد ذاتها وإنما هي هدف من أجل صنع ورفد الإنسان القادر على بنائها وتسييرها للإسهام بجدارة ووعي وفق سياسات ثابتة ممنهجة تستلهم هذه الحاجات وتستجيب  لدواعيها  والمتطلبات.

فما أحرانا اليوم أن نستلهم تلك التجارب الرائدة في تحقيق ذلك الطموح الوقاد والذي لا يتأتى إلا بإعداد الإنسان وتسخير تلك الطاقات والعزائم التواقة في المواقع المتعطشة للبناء والتعمير أو الترميم إن صح التعبير، وإعادة هندسة صياغة الاستراتيجيات، وهيكلة الخطط الموضوعة وتقييم الهياكل التنظيمية ومتابعتها، وتنفيذها باتساق وانسجام ماضية في تحقيق غاية نبيلة؛ هي بناء الإنسان العماني للمستقبل لتشييد لبنة حقيقية للوطن وللأجيال اللاحقة ويقول مالك بن فهم في هذا الجانب: "إنّ القيمة الأولى في نجاح أي مشروع هي الإنسان، ليس الاقتصاد إنشاء بنك وتشييد مصنع؛ بل هو قبل ذلك تشييد إنسان، وتعبئة الطاقات الاجتماعية في مشروع تحركه إرادة حضارية وطنية" وبالإضافة إلى ما تقدم فإن من الدواعي الأساسية التي يتطلبها خلق أي مشروع كان هو قائد ملهم وموجه مرشد وتلميذ متعلم وعامل منفذ وعمل مخلص؛

ولهذا لم أجد فيصلاً حاسماً بين تشييد الأوطان وصنع الإنسان؛ فالأخيرة كانت وما زالت بداية للأولى، وكلاهما وجهان مكملان لعملة واحدة.

خلاصة القول لقد حظي العماني منذ الوهلة الأولى بالاهتمام السامي من لدن حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم - حفظه الله ورعاه - فهُيئت له الفرص، وذُللت له الصعوبات وأصبحت الكرة في مضرب الشباب للانطلاق الجاد نحو سوق العمل للمشاركة في كافة برامج التنمية المستدامة في ميادينها المتعددة، ولقد أريد للإنسان العماني أن يكون أساسا متيناً للتنمية الحقيقية وحجر الزاوية الرصينة في بناء الدولة العصرية ﴿وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ﴾.

تعليق عبر الفيس بوك