"وطني منبت الكرام عُمان"

عُمان في شعر الشيخ صقر بن سلطان القاسمي حاكم الشارقة الأسبق

يكتبه: أحمد الفلاحي

عمان وحقك يا موطني            وأعظم بحق الوفا من قسم

سأحيا لحبك رغم الظروف        ورغم الخطوب ورغم الألم

قسم عظيم يقسمه الشاعر بعُمان عهداً موثقًا يؤكد حبه الشديد لها وينبئ عن مشاعره الفياضة نحوها واعتزازه الكبير بمكانتها وإخلاصه الثابت تجاهها.

ولا يقسم الناس عادة إلا لتوكيد أمر أو الإصرار على موقف. وعندما يكون القسم بالشيء نفسه فذلك غاية في التعظيم والإجلال ما بعدها غاية.

وعندما يُقسم شاعرنا باسم عمان وأنه سيحيا لحبها مهما كانت الخطوب والظروف والآلام فإنِّه يعبر بذلك عن عواطف تملأ نفسه وتحتشد في دواخله. وعن روابط وشيجة قوية لا تنفك عُراها تربطه بهذه الأرض وثراها العريق الخالد عبر الزمن.

هذا الشاعر المتيم المفتون الذي يقسم هذا القسم العظيم بالوطن معبراً عن عمق حبه له وصادق إحساسه به. من عساه يكون يا ترى؟ من بين شعرائنا الكثيرين المجيدين الذين أوقفوا جل أشعارهم للتغني بعُمان وأمجادها وتاريخها حتى لقد اتهم بعضهم بالأنانية والمبالغة وتجاهل الآخرين. هذا الشاعر هل هو أبو مسلم الذي فاض شعره في تخليد مآثر عمان وتاريخها ورفع ذكرها حتى لم يكد يرى في غيرها من يُساويها أو يداني منزلتها؟ أم هو هلال السيابي الذي (سبح باسم عُمان بعد الله واتخذها أورادا) لأذكاره وصلواته؟ أم هو الخليلي الشاعر الكبير الذي أخرجت قرائحه الغنية الملاحم الطوال في عُمان وكان شعره سجلاً حافلاً لأعلامها ومعالمها؟ أم أنَّه هلال بن بدر الذي هدرت قصائده باسم عمان وأدوارها الضخمة؟. أم هو عبد الله الطائي الذي استحوذت عُمان على معظم شعره؟ من هو شاعرنا الوطني المتفرد بهذا القول؟ وإلى أيِّ مدينة عمانية ينتمي ديوان شعره الصادق الانتماء؟ وكل مدينة عمانية لها شعرها ولها شعراؤها. هل هو من مدينة سمائل منبت الشعر والشعراء في عُمان؟ هل هو من مدينة نزوى محراب العلم والعلماء؟ أم هو من صور ثغر عُمان الشرقي ذات التاريخ الفينيقي والسفر البعيد في أعالي البحار؟ أم هو من ظفار العابقة باللبان والبخور والمتشحة جبالها بالإخضرار وحدائقها بغابات النارجيل؟ أم هو من صحار مدينة التاريخ وسوق الشعر وملتقى الحضارات والثقافات والتجارات في سالف القرون؟ أم من توام بوابة عُمان الشمالية ذات الحصون العالية والأسوار المنيعة؟ من أي بقعة من تراب هذا الوطن يتدفق ذلك الشعر الصادح بحب الوطن وبقاع عُمان كلها فياضة بالشعر في سهولها ومرتفعاتها؟ من تراه هذا الشاعر؟ الذي انسكب شعره عشقاً لعُمان وتمجيدًا لها يتحدث إلى أهلها حديث الحب والغيرة والوفاء؟ شاعرنا هذا – قارئي العزيز – ليس من أبناء تلك المدن التي ذكرناها ولا من الأماكن القريبة منها. وإن كان يعد نفسه شاعرها كلها. وهو ليس من الشعراء العُمانيين الذين يعرفهم جمهور الشعر في عمان اليوم وإن كان هو يصنف نفسه واحدًا منهم بإصرار وتعصب وهم يعتزون به أعظم اعتزاز ويفخرون بانتسابه لهم وانتمائه إليهم مُعتبرين إياه من عميق لباب عنصرهم. هذا الشاعر ذو القصائد العمانية الوافرة المشاعر هو الشيخ أبو سلطان صقر بن سلطان القاسمي حاكم إمارة الشارقة الأسبق. وهو شاعر يبرز اسمه في الصدارة بين شعراء العربية وقد ظهرت دواوينه "الفواغي" و"جنة الحب" و"وحي الحق" في بيروت في الخمسينات والستينات من القرن العشرين وكان لها ذيوعها وانتشارها وكانت موضع التقدير والاستحسان من شعراء العربية وكتابها حينذاك. وقد وصف الشاعر الكبير "الأخطل الصغير" شعر الشيخ صقر بأنَّه "بشائر الفجر العربي" وخاطبه المبدع العربي فارس الخوري بقوله: "أنت يا سيدي شاعر الأمراء غير منازع وأرجو لك أن تصير أمير الشعراء إذا تجردت لهذه الصناعة واتسع لها وقتكم" وقد احتفى بشعره الأدباء والنقاد وكتب عنه الكثيرون وأفردت له المجلات العربية الكبرى يومئذ صفحاتها فأصبح اسمه يرد مع الشعراء أكثر مما يرد مع الأمراء. ولكن اسم شاعرنا لم يعد مألوفاً بكثرة لدى الأجيال الجديدة من الشبان لأنه في سنواته الأخيرة قبل رحيله تقاصر في نشر شعره وخاصة منذ أن طوقته العواصف وألمت به المحن والظروف الصعبة التي أبعدته بعض الشيء عن الجمهور وإن لم يبتعد عن النخبة من كبار أهل الأدب والشعر. والحق أنَّ المعوقات التي صادفته على شدتها لم تؤثر في شاعريته التي ظلت غزيرة فوارة وإن قللت من النشر. وفي النصف الثاني من ثمانينات القرن العشرين الماضي أخرجت المطابع مجموعة من قصائده في ديوان صغير بعنوان "صحوة المارد" ثم بعد ذلك في شهر نوفمبر من عام 1989م، أصدرت "دار العودة" البيروتية المتخصصة في إصدار مجموعات كبار الشعراء العرب المعاصرين ديوان شاعرنا في مجلد ضخم نستطيع القول أنه ضم أغلب أشعاره ومع العقد العاشر من هذا القرن الواحد والعشرين الذي نحن فيه قامت ابنة شاعرنا الفنانة التشكيلية والكاتبة الروائية ميسون القاسمي المقيمة في القاهرة بجهد كبير مميز استطاعت من خلاله جمع كل أشعار والدها في أربعة مجلدات ضخمة ظهرت في طباعة أنيقة راقية.

والشيخ صقر متنوع الأغراض في شعره فهناك الغزل الرقيق والوصف والإخوانيات ولكن الطابع الغالب على شعره هو التوجه القومي بصفة عامة فهو عروبي شديد التمسك بعروبته والجهر بها والإصرار عليها وهو وحدوي يؤمن بوحدة الأمة العربية وبضرورة هذه الوحدة وهو حزين لتلك المآسي المتكررة التي تنزل بالأمة حالاً بعد حال وقد عايش الشاعر أغلب تلك النكسات والمصائب. وزاد من حساسية شعره ما واجهه هو ذاته من معاناة شخصية قادته نحو النفي عن وطنه ليعيش مغتربًا ومن ثم إلى السجن لسنواتٍ عديدة فيما بعد. ويمكن تمثل شعر الشيخ صقر القاسمي بصورة عامة في البيت الذي يقول فيه:

حب العروبة والأوطان حبب لي أن أنشد الشعر في قومي وأوطاني

وعلى أية حال فلسنا هنا بصدد الحديث عن تجربة الشاعر كلها ولا عن أشعاره المختلفة ولكنَّا نريد فقط أن نقف مع عمان في شعره وكيف تناولتها قصائده والعاطفة الشديدة القوة التي أبانت عنها تجاهها. وينبغي الملاحظة أنَّ أغلب هذه القصائد تتحدث عن عمان في الأربعينات والخمسينات والستينات يوم كانت عُمان تعيش في أحوال رهيبة من البؤس والعناء وتحيا حياة القرون البعيدة التي لا يُمكن تصورها في هذا الزمن من التخلف والانقسامات القبلية والعزلة عن العالم. لهذا نجد شاعرنا يأسى لذاك الحال ويهيب بالعمانيين أن ينهضوا بوطنهم وأن يكونوا يداً واحدة في سبيل رقيه وتقدمه:

عمان وهل لي سامع فأقول       فقد هدني بعد الرجاء نكول

وآلمني منك الفعود وقد دعا      المنادي فهل مس الفخار أفول

فيا حزني إذ لم أجدك موحدا           إلى المجد تمشي سيدا وتقول

إذا ما دعاك الحق لبيت صوته         كأنك سيف للنزال صقيل

تعيد لنا الماضي بأجلى صفاته         وطرفك عن رؤيا الهوان كليل

صرخة تعبر عن الآلام والحزن للحالة السيئة التي يعيشها الوطن العماني آنذاك ودعوة صارخة للنهوض والتقدم وإعادة المجد القديم والخروج من التقوقع والانكماش إلى التوحد فالوحدة هي أساس البناء وهي الركيزة التي يشاد عليها التقدم والتحضر. وفي الأبيات تحسر على الواقع الأليم واستنهاض لتجاوزه ورفضه وأمل في تحقق ما ينتظر تحققه في بلد كان ماضيه عظيمًا زاهيًا ولا بد أن يكون مستقبله أكثر ازدهارا وإشراقا:-

يا عمان وأنت أعظم شيء        في فؤادي وأنت مجلى البصائر

هذا البيت قاله الشاعر وهو في الرابعة عشرة من عمره وهو يدلنا على أن حبه لعمان منغرس فيه مع تكونه ونشأة نشأ عليها في باكورة يفاعته وغذاء غذاه به أهله الكرام الأماجد منذ طفولته الأولى لذا ظل هذا التوهج وهذا الانتماء العميق رفيق الشاعر طوال حياته:-

عمان العلا تفديك مني مهجة    

رعيت ولاها حين هانت على القربى

ألست الذي أرضعتني من طفولتي    

هوى وطني واخترت لي مركبا صعبا

عمان لديه المثل الأعلى والوطن الأقدس الذي تفديه الأنفس ويسكن أعماق المهج وهي "أعظم شيء" عنده كما عبَّر عن ذلك بيته الذي مر قبل قليل وعمان عنده عربية الجذور والانتماء وارتباطها بالعروبة ارتباط أزلي كارتباط الأعضاء بالجسد الواحد الحي الذي لا يستطيع عضو فيه الاستغناء عن الآخر وعمان أحد هذه الأعضاء الأساسية التي لا غنى للجسد العربي عن نشاطها وحيويتها:

ما عمان والعرب إلا كجسم      فيه تسري من الحياة الدماء

ما عمان والعرب في الشرق إلا ما أحاطت بمكة البطحاء

ويُردد هذا المعنى نفسه في أبيات أخرى ليؤكد أصالة عمان العربية وانتماءها القومي العربي المتجذر فعمان هي أحد الأطراف الأساسية للجسم العربي الذي لا تتجلى قوته إلا بسلامة كل أطرافه وصلابتها:

عمان والعرب جسم إن شكا طرف     لباه باقيه في سر وإعلان

عمان والشرق والسمحاء تجمعه      شيدت دعامته الغرا بقرءان

وفي مكان آخر حين يعدد الشاعر أوطان العروبة ويتحدث عن أماكنها وديارها في مجال حديثه عن الوطن العربي وعن الأمة الواحدة يؤكد على موقع عمان في هذا العقد العربي:

في ذرى النيل والشام ونجد       وعمان ومكة والعراق

ويقف الشاعر مرة أخرى ليؤكد أنَّ صوت عمان قادم وأنه سيُجلجل في الآفاق يحمل الأمنيات الطيبات لكل العالمين كما هو دور عمان دومًا في كل أحقاب تاريخها الطويل:

هنا من بلادي عمان

يجلجل صوت الفداء

صوت الأماني

وفي قصيدة أخرى يكرر نفس النغم ويصرخ بنفس الصوت:

يا أخي هذا عمان الحر نحياه مرايا

يحلم بعمان الناهضة المتطورة القوية ذات الشأن في محيطها وفي وطنها العربي وفي عالم البشرية كلها ولكنه سرعان ما يرى التخلف المريع والحال المؤسف فيتحسر لذلك ويتألم:

عمان أرى كل البلاد تقدمت       وقد لفها دين وألفها شرق

إنه يريد عُمان المتقدمة المؤتلفة مع العروبة من حولها والمحتمية بحمى العقيدة الإسلامية التي تنبذ الاختلاف والشقاق وتؤكد المحبة والوحدة والإخاء. ويقرأ شاعرنا صفحات التاريخ فيصيح باكياً متألمًا حين يرى أمجاد عمان وماضيها المشرق وحضارتها الزاخرة بالعطاء ثم يراها وهي في حال من التخلف والتمزق والشقاق:

عمان معي دوما وأنت مسامري فقد عزّ من أشكو وتشكوه من حال

وقفت على التاريخ يوماً فراعني صحائف من فخر طوين وإجلال

وفي قصيدة سينية طويلة تأتي على غرار "سينية البحتري" الشهيرة من حيث الوزن والقافية نجده يتحدث طويلاً عن عمان وأمجادها وأعلامها وتاريخها ومعالمها حديث الحب والاعتزاز والتفاخر الذي يفيض بالأحاسيس العميقة والمشاعر الدفاقة:

وطني منبت الكرام عمان          وغياث المنكوب من كل بؤس

عربي نمي لقحطان ذي الفخار        ونجي من كل وغد أخس

توجت عرشه اليعاربة الصيد           وباهى بيومه وبأمس

خضب البحر من دماء الأعادي        وقرى الوحش من شبيه الدمقس

وأرى البرتغال يوماً عبوسًا       لم يقم بعده لهم من درفس

تلك أفعاله فسل زنجبارا                وتأمل فالدهر لا شك منسي

قف بـ"نزوى" وانظر هناك بناء "يتجلى كصنع جن لإنس"

ثم يمم بالسير قلعة "نخل"      مربط الصافنات من كل جنس

أرجفت من صهيلها الهند والصين     وأنكت بالبرتغال وفرس

ما أغارت إلا وقائدها النصر           وردت كيد العداة بنكس

أمة شادت الفخار لتبقى                 بكماة لدى المكاره حمس

مشاعر دفاقة تنهمر بالفخر والانتماء والاعتزاز بهذا التاريخ العظيم وتلك البطولات الزاهية التي تظل مدى الدهر نقاطًا مضيئة في سجل التاريخ العربي. ولكن الشاعر ما يلبث أن يعاوده إحساس الأسى والضيق للحالة المأساوية التي آلت إليها عُمان بعد ذلك العز وتلك المكانة العالية المتميزة. وفي قصيدة وجهها إلى صديقه العلم الكبير أبو بشير الوجيه الفقيه المؤرخ الشاعر الشيخ محمد السالمي نجد شاعرنا يتساءل بحرقة واضحة لماذا هذا الحال في عُمان؟:-

إلام عمان والخطوب تنوشه

                     يظل عل هذا الشقاق ويخذل

وتنتاشه الأرزاء من كل جانب

                     وليس له من صولة الظلم موئل

أيدعو فلا نأسو جراحات قلبه؟

                     ويفتك داء الجهل فيه ويفعل

أتسبقنا كل الشعوب وقطرنا

                      بما فيه من خير ضعيف وأعزل

ويلتف شمل الشرق إلا عمانه

                     أبى أن يرى فردا عليه يعول

ومع ذلك فإنَّ الشاعر يثق ثقة قوية في أن هذا الوطن العريق لا بد أن يتخطى محنته وأن يلحق بركب الحضارة والتَّقدم فله من تاريخه العظيم وحضارته الخالدة ما يدفعه ويحفزه إلى الانطلاق نحو آفاق التقدم والرقي أليس هو الذي دحر الغزاة ورد كيد الباغين والمعتدين:

فسل عنه كيف جلا البرتغال            وكيف تلاشت جيوش العجم

ويؤكد الشاعر في هذه القصيدة وقد كتبها عام 1954م وعنوانها "عُمان" على مشاعره الحارة الخاصة تجاه عمان واعتزازه بانتمائه إلى تاريخها وحضارتها متفائلا في الوقت نفسه بأن عمان ستسترد مكانتها وستضيف إلى مجدها التليد الموروث مجدا جديدا يعيد لها شأنها ومنزلتها بين شعوب الأرض:

عمان وحقك يا موطني            وأعظم بحق الوفا من قسم

سأحيا لحبك رغم الظروف        ورغم الخطوب ورغم الألم

بلادي فدتك حياة الأباة            فإن الفداء حياة الأمم

بلادي مهما عتا غاصب                وأسرف في خفره للذمم

وسد عليك دروب الحياة                وأسكت من جوره كل فم

فما زلت نورا يضيء الطريق          ويبري الجروح ويجلي الغمم

ذلكم هو الغناء الرائع النابع من القلب المتوهج عاطفة وصدقاً الذي غناه لعُمان الشاعر الكبير الأمير صقر بن سلطان القاسمي. وهي مشاعر لا مجال فيها لمزيد من التفسير والإيضاح فهي جلية بينة. ومن الملاحظ أن خطابه لعمان في معظم أشعاره لا يجيء بصفة المؤنث كما جرت العادة في مخاطبتها وإنما يخاطبها كمذكر لعله من باب التفخيم.

وهذه الأسطر إنما هي للتذكير بشاعرنا الكبير الذي شع ضياءه في دنيانا وعلت مكانته بين شعراء العروبة كواحد من البارزين منافحًا عن قضايا العرب ومخلدا لمآثرهم ومفاخرا بحضارتهم وأمجادهم وفي شعره تتبدى عواطفه الحارة نحو وطنه عمان مذكراً بإسهامه الكبير في مسيرة التاريخ العربي وتاريخ الإنسانية كلها على مر العصور.

وقراءتنا هذه السريعة المتأملة لما يخص عُمان في شعره أردنا منها لفت نظر أبنائنا إلى ذلك حيث أوشكت أفكاره تلك على التواري تحت ظل المتغيرات في زمننا هذا. وفي الوقت نفسه تحية إجلال ومحبة نوجهها لعلمنا الكبير وهو في ملكوت الله مع الخالدين من أعلام العرب العظام.

تعليق عبر الفيس بوك