حياة الشّيخ إبراهيم أبي اليقظان.. دروس وعبر

أ.د/محمد بن قاسم ناصر بوحجام – الجزائر


في حياة الشّيخ إبراهيم بن عيسى أبي اليقظان (1306 – 1303ه/ 1888 – 1973م)كثير من المعاني  والفوائد والعبر والدّروس التي يحتاجها الفرد في بناء حياته وتسييرها على أسس صحيحة. فالشّيخ عاش للعمل الدّؤوب، والطّموح غير المحدود، عاش للأصالة يحافظ عليها ويحميها ويدعو إليها، عاش للأخلاق والخلال يبشّر بها، ويرشد إليها، ويدرِّب عليها.
عاش للدّهر يعجم عوده، ويحلب أشطره، عاش للخطوب يصكّها بالصّبر والجلد، ويقهرها بالتّحمّل وعدم الاكتراث بها. عاش لغيره، يذوب كالشّمعة ليستضيء، عاش للمصلحة العامّة، يضحّي بمصلحته الخاصّة من أجلها، عاش للأهداف النّبيلة، يسعى لتحقيقها، عاش للنّاشئة يربّيها وينمّيها. عاش للشّباب يعدّه ويكوّنه. عاش للمجتمع يرشده ويوجّهه.
عاش يحارب الذّلّ والصّغار، عاش يقاوم الجبن والوهن، عاش يناهض التّعسّف والقهر، عاش يجاهد بالكلمة المسؤولة، عاش للفكر الأصيل ينثره، عاش للتّكوين الصّحيح ينشره، عاش للألم يزحف إليه، ويسير نحوه، من دون وجل أو تردّد، يستسيغه ويستثمره لإنجاز أجلّ الأعمال، وأجمل البطولات، وأجلى الأمجاد، يعصره الألم فيجد فيه تحقيقَ أمله، يستفزّه فيجد فيه الرّجلَ العنيد، يضغط عليه فيلقى فيه الشّخص العميد، يُغير عليه، فيجابهه بالعزم العتيد. كان الألم في مسيرة الشّيخ سبب النّبوغ والإنتاج الغزير. قال الدّكتور عبد الرّزاق قسّوم عن الشّيخ أبي اليقظان: "...خرج بعض النّقّاد ذات يوم بفكرة في منتهى الغرابة، وهي تمنّي الشّقاء لذوي المواهب الفكريّة، حتّى يكون ذلك الشّقاءُ مدعاةً لخصوبة الإنتاج، فتستفيد الإنسانيّة من ذلك، وكأنّ الإنسانيّة طبقًا لوجهة نظر النّقاد هؤلاء، ستتضاعف استفادتها متى وجد الحافز، المتمثّل في الألم لدى المفكّرين والأدباء. ومن هذه الفئة القليلة المتمرّدة على هذه المحن، يبرز إنسان جزائري، تعدّدت جوانب العظمة في شخصيّته، ذلك هو الشّاعر والصّحفي والمصلح الجزائري أبو اليقظان." (1)
كتب عن الألم كثيرًا، وحيّا من غالب الألم وقاومه، ففي أشعاره نجد مثلاً هذه العناوين:" السّجن مجمرة تفوح بها قيم الرّجال" قالها الشّيخ أبو اليقظان في الشّيخين: صالح بن يحي، ومحمّد الرّياحي بعد خروجهما من السّجن، يوم 10 من ربيع الآخر 1336هـ. " جسر المجد والعظمة"  قالها الشّيخ إثر خروج الشّيخ عبد العزيز الثّعالبي من السّجن يوم 16 من رمضان 1339م. ومن مقالاته في هذا المجال:   " الألم يحرّك العزائم "...
عاش يدعو إلى الإقدام والإسراع إلى التّضحية والبدار والنّفار، وأخذ الحقوق بالمغالبة، ونيل المطالب بالمثافنة، وعدم الاستسلام للألم، وعدم الرّكون والرّضوخ للمصاعب والمتاعب، قال مخاطبًا السّاعين والسّارين في درب النّضال والكفاح من أجل التّحرّر من كلّ عبودية واستبداد:

ابنِ صرحَ المجد عن أسّ الضّحايا
وأشــد عــرش العلا رغـم البلايــا
خـض غمـار الهــول غوصًا، إنّمـا
لؤلـؤ التّيجــان فــي بحــر المـنايــا
إنّ فــي المــوت لـطـــلاّب العـــلا
لحــياةً، لا حــياة أهـــل الدّنـــايــــا
إنّمــا الـدّنيـــا جِـــهـادٌ، مــن يَـنَـــمْ
يومــه، داســـته أقـــدام  الــرّزايــا
ولنيـــــل الحــــقّ أدوارٌ، غـــــدت
خطــــوات، جـــازها كلّ البـــرايـا
فـــأنيـــن، فكـــــلام، فـــصيـــــاحٌ
فَخـــصــام، فجــــلادٌ، فســــرايـــا
وَثَـبـــاتٌ للمعــــالــــي، وَثبـــــات
للعـــوالي، وخـــصال ومــزايـــــا (2)
عاش للأمّة الإسلاميّة، يكشف أدواءها، ويصف لها الدّواء، وينبّهها إلى غفلتها، ويدعوها إلى اليقظة والنّهوض، ويقفها على كبواتها، ويساعدها على القيام. عاش يسوق الأمّة إلى الصّلاح والإصلاح، وقال:"...ولكن لم تزل الأمّة في شغل شاغل عن هذا كلّه، الجاهل في جهله، والمنافق في نفاقه، والمفسد في فساده، والفاسق في تهتّكه، وانهماكه، بل لم نَرَ للجهل إلاّ إمعانًا وتمكّنًا، ولا للفساد إلاّ شيوعًا وذيوعًا، ولا للإلحاد والزّندقة  إلاّ تسرّبًا وتغلغلاً، ولا للتّهتّك والانهماك إلاّ فشوًّا وانتشارًا. كأنّ ما يبذله المصلحون مواد مفرقعة، تزيد الحريق التهابًا، والعمران خرابًا. ولا غرو في ذلك فإزاء تلك القوّة الإصلاحيّة الضّئيلة حركة أخرى لها، راسخة الأصول، متشعّبة الفروع، تغذّيها وتمدّها قوّة أخرى، وسواعد مختلفة، لا يمكن التّغلّب عليها إلاّ بتوحيد الجهود، وجمع ما تشتّت من القوى، وما تبدّد من المواهب. ولن يتسنّى هذا والمصلحون قليل، وهم أنفسهم تنقصهم الكفاءة والمران.
إنّ معالجة أدواء الأمّة لا تكون إلاّ باكتساح تلك الأصول المبيدة: الجهل، الفقر، الافتراق. وغرس بذور الحياة فيها: العلم، الثّراء، الاتّحاد. ولن يحصل شيء من هذا بالأماني والأحلام، أو بمجرّد القول وفوار الفم، ولكنّه يحصل بتوجيه العزائم، وتحريك الهمم وصدق الطّلب، والإخلاص والصّبر والثّبات..(3)
من أجل ذلك كانت حياته كلّها دروسًا وعبرًا، يُمتَاح منها في معركة التّحدّي والتّصدّي، يُستنجَد بها في ردّ التّعدّي، تُستَلْهَمُ في زمن الرّداءة والرّدّة والتّردّي، تُستنطق لتصحيح المسار، تُستثمر لتغيير ما يحدث في الدّار. إنّ الجهات التي تحارب الأصالة أصبحت كثيرة، من الدّاخل والخارج، والجبهات التي يجب التّصدّي لها أضحت عديدة، والوسائل التي بها يتمّ العمل، ينبغي أن تكون ناجعة، يراعى فيها القوّة والحكمة والتّناغم، ونفاذ البصيرة، وحسن الاختيار، وفهم الخصم، وإدراك حجم المؤامرات، وتقدير طبيعة المعركة، ومعرفة حقيقة العمل المنتظر... كلّ ذلك بمكن أن نفيده من طبيعة عمل الشّيخ أبي اليقظان – رحمه الله – إذا أحسنَّا قراءة سيرته، وعرفنا كيف نفهمها، وحذقنا كيف نستلهمها.
رسالة الشّيخ أبي اليقظان في الوجود، حدّدها هو بنفسه: " أخي، إنّ رسالتي إنسانيّة، لا يقظانيّة ولا مذهبيّة، أنا إذا كتبت أو وَعظت، إنّما أوجّه نصائحي ووعظي وإرشادي إلى كلّ المسلمين. فإنّه يعلم الله كم يكون فرحي شديدًا برجوع المسلمين إلى جادّة الحقّ والإسلام، فكلّ فردٍ كنت أنا السّبب في إنقاذه من النّار، كم يلحقني من فرح وسرور وبهجة، وكم يكون سروري عندما يسلم فرد من أفراد المسلمين من أن يحشروا في عرض النّار."(4)
إنّ الشّيخ أبا اليقظان يخاطب أبناء الأمّة الإسلامية في عشرينيّات القرن العشرين، ويعرض حالها في تلك الحقبة، ألا يمكن أن نعدّ هذا خطابًا لنا نحن رجال القرن الواحد العشرين؟ ألا يكون هذا العرض هو ما نعيشه ونلقاه اليوم؟ فإنّ حالنا لا تختلف عمّا وصف، ووضعنا لا يقلّ سوءًا عن ذلك الوضع، ألا يجدر بنا أن نأخذ توجيهه محمل الجدّ، ونداءه بعين الاعتبار، فنقوم بواجبنا كما يريد ويدعو؟! فيكون لنا في سيرته وحياته ملهم ومرشد وموعظ...
لهذا كان يرى نفسه مسؤولا عن رعيّته، وهم المسلمون كافّة، تفرض عليه المسؤوليّة أن يقوم برسالته الدّينية نحوهم، بل هي واجبة على كلّ مسلم في هذه الدّنيا. يقول الشّيخ:" أخي تصوّر أنّ لرجل غنمًا، كان حريصًا عليها، يصونها من الجوائح كالذّئب والرّيح والمطر والعطش ونحو ذلك، وفي ذات يوم هرولت من قفصها هائمة في طريق منحدر إلى هوّة سحيقة، فأخذت تنقلب أكداسًا وأشتاتًا في هوّة سحيقة، لا قعر لها(في جهنّم)، فكيف يكون صاحب الغنم؟ أفلا يجنّ جنونه؟
أنا صاحب الغنم، والغنم هم المسلمون، فكيف يكون حالي معهم، وأنا أرى مصائرهم أمام عيني؟ فهدفي كلّه موجّهٌ إلى صيانة الغنم من الذّئاب، شياطين الإنس والجنّ. فكلّ ما تحمّلت من اضطهاد وتضحية هو في هذا السّبيل.(5)  
ألسنا نعيش اليوم الوضع نفسه؟ فنحن نعاني من الرّياح والأمطار والذّئاب، التي ليست سوى الغزو الفكري، والقهر الأجنبي، والتّدخّل السّافر في خصوصيّاتنا، والعمد إلى سلبنا مقوّماتنا وأصالتنا، بما يدبّر لنا من الدّاخل والخارج، بواسطة البرامج المسطّرة، والمناهج المزيّفة، والمخطّطات الموجّهة إلى غير وجهتنا الصّحيحة. ألا نشكو عطشًا إلى مبادئنا، وظمأً إلى أصولنا؟ ألا نشتكي من قحط في مناهجنا، وفراغ أو خواء في مضامينها؟ ألا نعاني أزمة في فهم هويّتنا؟
أفلا يكون لنا في توجيه شيخنا أبي اليقظان، وفي عمله حافز لنحذو حذوه، ونسير سيره في صيانة غنمنا من الجوائح، وسطو الأعادي؟ ألا نضحّي كما ضحّى؟ ونفدي رعايانا كما كان يفعل؟ ألا نقدّر مسؤوليّتنا كما كان يقدّرها؟
خاض وغاص، وجال وصال في ميادين متعدّدة، في مجال الشّعر والنّثر، الفقه والتّاريخ، في الاجتماع والتّربية... إلاّ أنّ المضمار الذي كافح فيه وناضل وجاهد، وقارع ونازع ودافع ، وأبدع وأمتع وأينع، وأقضّ به المضاجع، وأوجد المواجع، وسبّب الفواجع، وحرّك الضّمائر، ونشّط الفواتر، وهزّ المنابر، ونشر فيه الفكر، وحارب به الكفر، وردّ عن قومه القهر...فجاوز بذلك الذّرى، وجاور الثّريا والسُّها، وحاور المجد والسّنىَ . إنّه ميدان الصّحافة، التي كان يرى فيها روحه وحياة الأمّة، كما قال:
إنّ الصّحــافــة للشّعــوب حـيـــاة
والشّعب من غيـر اللّسـان مــوات
فهي اللّسان المفصـح الذّلـق الـذي
ببيــانــه تــتــدارك الـغــــايـــــات
فهــي الوســـيلة للسّعــادة والـهنــا
وإلى الفضــائل والعـــــلا مرقـــاة
الشّعب طفلٌ، وهي والده، يـــــرى
 لحــياته مــا لا تـــــراه رعـــــــاة (6)
كما كتب عدّة مقالات، يشيد فيها بالصّحافة، ويعالج مسائلها، وينثر أفكارًا عنها، نشير إلى بعضها، ممّا نشره في جرائده. ففي جريدته " وادي ميزاب " نجد العناوين الآتية: " نشوة الصّحافة في العالم" (ع:1)، " تأثير الصّحافة في العالم " ( ع:3)، " الصّحافة والعلم " (ع:5)، " الصّحافة والدّين " (ع:6)، " الاستخفاف بحقّ الجرائد " (ع: 31)، " أكبر دار للصّحافة في أوروبا " (ع: 52)، " شقاء الصّحفي، إذا..وإذا.." ( جريدة المغرب، ع: 24)، " ماذا يجب أن نسلكه بصحافتنا العربيّة في وادي ميزاب " (النّور، ع: 72)، " كيف يحب أن تكون العلاقة بين الجريدة الصّادقة وبين الجمهور  (الأمّة، ع: 45)
يقول الدّكتور محمد ناصر : " أجل إنّ أبا اليقظان الذي آمن برسالته الإصلاحيّة، لم ييأس قطّ، ولم بحنِ ظهره للمحن، والنّفوس العظيمة لا يرهقها الصّعود، مهما تكن الطّريق وعرة، لقد بات من الواضح إذا بأنّه كان يهدف منذ التّخطيط المبدئي إلى اتّخاذ الصّحافة العربيّة أداة لإيقاظ الأمّة الجزائريّة بخاصّة، والإسلاميّة بعامّة، يَمُدّ بصره إلى كلّ أفق، ويعالج بقلمه كلّ المشاكل: دينًا واجتماعًا وثقافة وسياسة واقتصادًا. ومن هنا فهو يعتقد بأنّه لا وجود لحياة كاملة للأمّة، بدون صحافة رائدة مؤمنة." (7)

أعاننا الله للإفادة من هذه المحطّات، واسترواح هذه النّفحات، وإدراك تلك الخطوات، ورفدها وإسنادها بأخوات. ووفّقنا للوفاء بالعهود، وإنجاز الوعود، وتحقيق المنشود، وكسر الحواجز والسّدود، لبذل المزيد من الجهود، في خدمة تراث الجدود، لإرضاء الرّبّ الغفور الودود، وجعل التّاريخ علينا من خير الشّهود، وما ذلك على الله بعزيز ولا بعيد، وما نحن في ذلك من أهل القعود.

تعليق عبر الفيس بوك