د. سيف بن ناصر المعمري
ما أجمل الحديث عن لغة الخطوط والألوان، فهي لغة يُمكن أن تفهم بها قضايا معقدة بسهولة، لأنه لا يمكن أن يختلف على دلالة توظيفها أحد، فهي موظفة في الجوانب الحياتية سيما في الطرقات من خلال إشارات المرور، حيث يصبح للون سلطة لا يستطيع الإنسان مهما بلغت قوته وسطوته إلا الامتثال لها، حماية له من مخاطر جسمية أكثر من تجنبا لما ينتج من تجاوزها من غرامات.
من يجرؤ على مواصلة الانطلاق بسيارته والإشارة حمراء؟ من يجرؤ على الوقوف والإشارة خضراء؟ مثل هذه اللغة البليغة تساعدنا على فهم واقع المواطن اليوم الذي قيل ولا يزال يقال إنه خط أحمر، أي لا يُمكن لأحد أن يعبر نحوه ونحو حقوقه، وما يجب أن يحصل عليه نتيجة مواطنته في هذا البلد، ولأنه يمثل صمام الأمان الرئيسي الذي كلما كان قويًا، منيعًا، شاعرا بالأمان الاقتصادي والوظيفي كلما كانت البلد أيضًا تحظى بذلك، بل وأكثر منه لأن هؤلاء المواطنين سينطلقون بثقة في التجاوب مع مختلف القوانين والسياسات لأنها ستعزز من أمانهم، وقوتهم، لكن متى كان المواطن خطا أحمر؟ متى رسم كذلك أمام كل مسؤول، وأمام كل مشرع، وأمام كل تاجر، وأمام كل مستثمر، وأمام كل وزير، وأمام كل وكيل وأمام كل قاض، وأمام كل شرطي وأمام كل أحد يتعامل مع الألوان وسلطتها، متى ومتى ومتى حتى يصبح اليوم في ظل ما يشار إليها بـ"الأزمة الاقتصادية" خطاً أحمر؟
يحيرني السؤال كثيرًا، وأحاول أن أكون مراوغا في الإجابة عنه، وأحاول أن أكون فيلسوفا لأبين حقيقة ما يرمي إليه، وأحاول أن أكون فناناً لأرسم كيف أن اللون الأحمر هو نفسه اللون الأخضر، أو لأثبت أن الذين قالوا بذلك تشابهت عليهم الألوان، ولم يكونوا يعنون أن المواطن خط أحمر إنما كانوا يقصدون أنه خط أخضر وسيمر من خلاله كل ما يُمكن أن يعوض تأخر التنويع الاقتصادي، فليس لديه سلطة يملكها لكي تجعل منه خطا أحمر يمنع عنه كل هذه الرسوم والقوانين التي تأتي من كل حدب وصوب، وليس لديه مؤسسات مدنية قوية حتى تقف عند الضرورة وتحميه من بعض آثار ذلك، وليس له أصوات إعلامية حتى تنقل ما يواجهه؟
في ظل ذلك ما على المواطن إلا أن يدفع على أي حركة يقوم بها، إن جلس دفع، وإن وقف دفع، وأن تحرك دفع، إن تقدم دفع، وإن تأخر دفع، إن تكلم دفع، وإن سكت دفع، إن يمم جهة اليمين دفع، وأن توجه لليسار دفع، وإن نظر للنجوم والقمر في ليلة ظلماء دفع، لا خيار له في أن يدفع إلا أن يدفع، وسيأتي اليوم الذي يحبس فيه كثير من المواطنين أنفسهم في بيوتهم، إن لم يكن خشية من ارتفاع أسعار البترول، فخشية من الرادارات، وإن لم يكن خشية من ذلك فخشية على الراتب الذي لم يتمكن من اجتياز الخط الأحمر الذي وضع له عن الزيادة التي تتصارع عليها العديد من الشركات والمؤسسات والوزارات والبلديات، كل ورقة لها ثمن يجب أن يدفع، إلا إن كانت ورقة في يد المواطن فلا ثمن لها. فالشهادة التي تخرج بها من الجامعة والكلية لا تقوده إلى وظيفة تتناسب معها، والشهادة التي حصل عليها وهو على رأس عمله لم تجعله يجتاز الخط الأحمر، والمشروع الذي جرد نفسه من كل شيء من أجل أن يؤسسه لم يمكنه من أن يجتاز الخط الأحمر ليحصل على دعم له لكي يعمل بشكل سليم كما تعمل بقية الشركات، والمهارة التي يمتلكها والمؤهلات التي حصل عليها لا تؤهله ليجتاز الخط الأحمر ليحصل على فرصة تدريب من الفرص النوعية التي تقدم اليوم، والأرض التجارية والصناعية والزراعية لا حق له أن يحلم بها مثل الآخرين لأنه خارج الخط الأحمر، والإشكالية ليست في أحقيته إنما في عدم قدرته على اجتياز الخط الأحمر، والترقية التي يمكن أن تحسن من ظروف معيشته يستحقها ويقسم على ذلك كل مسؤول وقاض وفقيه ولكن الخط الأحمر يعيق ذلك، والمسؤول الذي يضعف من جودة الخدمات التي يحصل عليها، ويعيق السياسات والخطط والبرامج ويهدر الأموال التي يمكن أن تحسن من حياته، يقر الجميع أنه مقصر ولكن الإشكالية أن يعيش في دائرة الخط الأحمر، والمواطن خارج هذه الدائرة، الفاصل بينهما ليس أكثر من خط لكن من يجرؤ على عبور الخط الأحمر ليسمع من بداخله أن المواطن يعاني ليس من الخطوط والألوان فقط ولكن من توظيف هذه الخطوط بشكل خاطئ.
المواطن كان ولا يزال خطًا أخضر يعبر من خلاله كل شيء يعقل أو لا يعقل، يمكن أن يتحمله أو لا يتحمله، يستحقه أو لا يستحق، عبره عبرت قرارات توقف الترقيات، وعبره عبرت تعليمات تقليص التوظيف لأبعد مدى، وعبره عبرت قوانين جديدة مبررة بالضرورة للتنظيم ولكنها في واقعها تحمل أنباء لأعباء مالية جديدة، وسوف نشهد خلال هذا العام مزيداً من التشريعات والقوانين التي تزيد الأعباء المالية في قطاعات أخرى، فكيف يمكن أن يقتنع المواطن بأنه لا يزال خطا أحمر وليس أخضر؟ ومن ناحية أخرى كيف يمكن أن يبرر من يوجد في دائرة الخط الأحمر وقوف قوانين ضرورية لتنظيم قطاعات حيوية لسنوات لا لشيء إلا لأنها تقلص من دائرة الخط الأحمر، وكيف يمكن أن يفهم استمرارية الإنفاق في كثير من المؤسسات على وظائف شرفية منسية؟ وكيف يمكن أن يفهم تنفيذ مشاريع تجميلية من قبل بعض المؤسسات؟ وكيف يمكن أن يفهم إلى أين تقودنا هذه الحدود بين فئات الخط الأخضر وفئات الخط الأحمر، أليس من الضرورة أن نقيم جسورا تمكن من تحقيق حوار مشترك حول ما يجري، وتجعل بعض الآذان تستمع إلى أنين بعض المواطنين الذين بدأت تضغط عليهم كل هذه الإجراءات المالية التي لا خط أحمر يمكن أن تقف عنده.