التعمين بين العقل والعاطفة

 

علي بن مسعود المعشني

ما ينقصنا في سلطنتنا الحبيبة لتنفيذ خططنا ومراحل وأطوار تنميتنا هو فضيلة الاعتراف بالفشل حين يوجد وفضيلة المُراجعة قبل التراجع. فخلال سنوات عمر دولتنا الفتية في طورها الحديث والعصري سعت الحكومة الرشيدة إلى جملة من الخطط والمشروعات رافقتها جملة من التشريعات والإجراءات بقصد النهوض بقطاعات بعينها أو تأسيسًا لقطاعات جديدة أو تعزيزًا لقطاعات قائمة.

لاشك عندي في حسن النوايا وفي المقابل لاشك عندي بوجود مفاتيح غائبة لبعض تلك الخُطى والخطط وبالنتيجة تواضع النتائج وهزال المردود. فالأوطان لاتُبنى بالنوايا الحسنة وحدها ولا بالإخلاص وحده بل بالتخطيط المحكم كذلك والعقل المُجرد من العواطف والواقعية غير المخلة بالوطن والوطنية، ومن هذه الخطط كان التعمين، فالتعمين لم يعد من لزوميات التنمية ومفرداتها الطبيعية بل أصبح هاجسا ومنغصا وطنيا تحوَّل بفعل غياب فلسفته من وضع طبيعي إلى بعبع مؤرق للجميع كون التعمين قضية وطنية محورية للتنمية البشرية والارتقاء الاقتصادي والسلم المجتمعي والتوازن الديموغرافي ولرفع منسوب الرضا عن الوطن.

إذا سلمنا وقررنا وأقررنا بأنَّ لدينا مشكلة اسمها "عاطلون" عن العمل وليسوا باحثون عنه فسنكون قد قطعنا نصف المسافة وظفرنا بنصف الحل، فالعاطلون هم أناس يترقبون فرص العمل المُناسبة لهم واللائقة بطموحهم في وطنهم وسعيهم العلمي أما الباحثون عنه وفق فلسفة التعمين الحالية فهم أناس يجب الزج بهم وحشرهم في أي عمل يمارسه الوافد دون النظر في التخصص أو عوامل الجذب والطرد الوظيفي والاقتصادي ولا الإنتاج المرتقب ولا الاستقرار والسكينة لسوق العمل. فالبطالة شيء والبحث عن العمل شيء آخر تمامًا وفق مفهومنا وتعريفنا الخاص في السلطنة. وبما أننا دولة عضو في الأسرة الدولية وموقعة على جملة من الاتفاقيات الدولية المنظمة للعمل وتعريفاته فحريٌّ بنا ولزامًا علينا تسمية الأشياء بمسمياتها المتفق عليها عالميًا وعدم الهروب إلى الأمام بمصطلحات وتعريفات مواساة لا تسمن ولا تغني، فنصف العلاج في تشخيص المرض وتعريفه.

فالبطالة مصطلح عالمي يعني ترقب فرصة العمل المناسبة للشخص وفق تخصصه الدقيق وطموحه ورغبته ونفسيته بما يمكنه من الإنتاج والإسهام في التنمية ولها تأمينات وضمانات قبل التمكين كونها حالة تنشأ عن دورات اقتصادية وأخطاء تخطيطية قسرية لأي دولة ويجب أن تكون معدلاتها وفق ضوابط وأرقام يمكن السيطرة عليها ووضع الحلول لها، وهناك العطالة وهي حالة من التخبط التخطيطي والتعثر الاقتصادي الناتجين عن غياب الرؤية والفلسفة والوعي والنتيجة تخريج جيوش من العاطلين البائسين والذين لا أمل لهم في العمل ولا ضمان أو سقف تأميني يظلهم ومحكوم عليها دفع ضريبة أخطاء غيرها وبالتالي ترقب الفلتان ومهددات الأمن الوطني والسلم المجتمعي من هذه الفئة المنسية والمهمشة القابلة للاشتعال والانفجار في أية لحظة. فالبطالة مشكلة عالمية أما العطالة فمحلية بامتياز. فغياب فلسفة التعمين هو ما أوصلنا إلى هذا الطريق المسدود وتجربة المُجرب مرارًا وتكرارًا بوعي أحيانًا وبلا وعي أحيانًا كثيرة.

أرقامنا تتحدث عن مليون و700 ألف وافد في سوق العمل والقطاع الوظيفي يقابلهم نحو (230) ألف عُماني في القطاع الخاص، وهذا معناه أن نزج بالعُمانيين جميعهم في سوق العمل لسد الفجوة وإحلال العنصر الوطني، وهذا من غير المعقول أو المنطقي على الإطلاق بمعايير التنمية والاقتصاد والعقل بل ومفهوم الدولة العصرية كذلك.

علينا أن ندرك أن العالم لوسلك سلوكنا في الإحلال واستبدال مصطلح البطالة العالمي بالباحثين عنه لسهل عليهم حل البطالة ولكن بتكاليف عالية جدًا كونها خطوة غير علمية أصلًا ولاتخضع لأي معيار اقتصادي أو تنموي أو حتى أخلاقي، فجميع بلاد العالم تزخر بملايين الوافدين ولكنها تعتبرهم ضرورة تنموية وشركاء حقيقيين في التنمية ويقومون بأعمال طاردة في الغالب للعنصر الوطني وجاذبة للوافد لمخاطرها أو تدني عوائدها ومُحفزاتها أو مزاحمتها لوقت المواطن المثقل بطبيعة الحال بالتزامات اجتماعية وأسرية في تفاصيل حياته اليومية. من هنا تفاوتت عقيدة العمل بين المواطن والوافد نتيجة اختلاف البيئات والثقافات ودوافع العمل ومناخه وجدوى العائد فتم توظيف جميع تلك المعطيات لخلق بيئة عمل مثالية وتنمية أفقية ورأسية مثمرة وناجحة.

مشكلتنا في السلطنة أننا نعتبر الوافدين محتلين لفرص العمل وناهبي ثروة وطن ووجودهم عبئاً على الوطن والمواطن، بينما الواقع ينطق بعكس ذلك تمامًا، فالوافدون شركاء فاعلون في التنمية ومكاسبهم مشروعة ووجودهم قانوني ولاغبار عليه، وإن حدثت من بعضهم مخالفات أو سلوكات تخالف وضعهم القانوني أو التنموي فمرد ذلك إلى الإرباك الكبير في سوق العمل بفعل التشريعات المتسارعة والمتغيرة والمفاجئة للمواطن والمقيم وغير المدروسة في كثير من الأحيان، وبالمحصلة هي نتاج طبيعي لملايين الوافدين من ثقافات وأعراق وحاجات مختلفة وبالتالي فهي مشكلة عالمية وليست عمانية. ولايحلم عُماني واحدٌ بأن يحل محل أي وافد كون أغلب الوفدين يمثلون عمالة غير ماهرة ويتصفون بأمية القراءة والكتابة ويتقاضون أجورا متدنية جدًا وفق المعيار المعيشي للسلطنة ومناسب جدًا وفق معيار معيشة بلدانهم وهنا يأتي معيار العرض والطلب والطرد والجذب.

حريٌّ بنا وقبل الإقدام على المزيد من الإجراءات في قطاع العمل، أن نفرز العمالة الوافدة بجنسياتها وتعليم أفرادها وخبراتهم ومهنهم وأعمارهم وأعداد كل شريحة منهم، ثم نضع مقابلهم العنصر الوطني العماني ونتساءل عن كيفية الإحلال وحجمه وجدواه وأثره السلبي والإيجابي على الاقتصاد الوطني والقطاع الخاص.

فليس من المعقول أو المقبول عقلًا أو منطقًا أن نفرض التعمين قسرًا على أنشطة لا يُقبل عليها العُماني ولاغيره من المواطنين في العالم بزعم التعمين فقط كتبرئة ذمة ولتحقيق أرقام وهمية نتشدق بها وهي بعيدة كل البعد عن الواقع وتمثل في المقابل هروبًا صريحًا من قبل الحكومة واعترافًا جليًا منها بالعجز عن مواجهة مشكلة البطالة ووضع الحلول العلمية المناسبة لها.

فهل يعقل – كمثال - أن يُطلب التعمين من شاب عُماني يفتتح ورشة حدادة أو نجارة أو تصليح سيارات (رغم ندرتها) ونحن نعلم علم اليقين أنه لا وجود لعُماني واحد أصلًا يحمل ذلك التخصص أو مسجل باحث في القوى العاملة!!؟ وهل يعقل في المقابل أن يسمح للوافد بتملك وإدارة صيدلية ويكتفى بتوظيفه لعُماني واحد مقابل عدد من الوافدين بينما يُفرض على العُماني الراغب في تملك صيدلية أو إدارتها العمل وحيدًا أو توظيف كادر عُماني!!؟ أليس هذا العُماني الذي سيتوظف صيدلانيا يحق له فتح نشاط وتملكه !!؟ هناك قصص شبيهة بألف ليلة وليلة في زمن التعمين يجب علينا التحلي بالشجاعة والتخلي عنها والاتسام بالعقل والاحتكام للعلمية ومعايير الاقتصاد والنفع وألا نغرد خارج السرب في أمور مصيرية للدول والشعوب.

يجب علينا أن نعترف بأننا لدينا بطالة وليسوا باحثين عن عمل حتى نفك الاشتباك والحرب الخفية المستعرة وغير المتكافئة بين المواطن والوافد وخلق مناخ مستقر وجاذب لسوق العمل ولتعزيز القطاع الخاص ليصبح قطاعًا حقيقيًا وليس جابيًا لفتات الحكومة ومكرماتها حتى نستنهضه في ملمات الدهر ونوائبه.

كما يجب علينا تخصيص تأمين على البطالة في الهيئة العامة للتأمينات الاجتماعية لا تقل عن (250) ريالا شهريًا لجبر ضرر العاطل والشعور بمعاناته ومساعدته على مواجهة الظروف المعيشية، مع إمكانية اقتطاعها منه بعد التوظيف بزيادة مبلغ مساهمته في التأمينات أو صناديق التقاعد لحين سدادها.

كما يجب علينا أن نراجع مراحل وأطوار دولتنا الحبيبة منذ بزوغ فجر النهضة ولغاية اليوم لنلاحظ إقدام المواطن على الوظائف في القطاعين العام والخاص ووتيرة وحجم ذلك الإقدام الطوعي والقطاعات الجاذبة والطاردة له وبناء على النتائج سنتمكن من وضع فلسفة واقعية وحقيقية للتعمين وحاجات كل قطاع وحجم العمالة الوافدة والشرائح والمهن التي يحتاجها سوق العمل بكل شفافية ووضوح.

فقبل عقدين من الزمن لم يكن هناك عُماني واحد يرغب في العمل طوعًا في قطاع البنوك كمثال، كون العقل الجمعي يتهيب من العمل في القطاع الخاص ويلهث خلف القطاع العام كونه أريح وأضمن كما يقال ويردد، واليوم يتهافت عشرات الآلاف من العمانيين على قطاع البنوك ويترقبون فرص عمل بها، وكذلك الحال بالنسبة لعمل المرأة في القطاعين العام والخاص وكيف أصبحت المرأة العمانية حاضرة وبقوة في كلاهما، وهذا دليل على أن الثقافات وتغييرها ومنها ثقافة العمل لاتأتي عبر قرار أو مرسوم أو قانون بل عبر حاجات المجتمع وأطواره، حيث يمكن للفرد اقتناء كل منتج مادي جديد في العالم والتكيف معه ولكنه يستحيل علينا فرض ثقافات بعينها وإحلالها قسرًا دون حاجة المجتمع أو تهيئته وقابليته لذلك، وهذا ما يجب علينا أن نضعه نُصب أعيننا حين نخطط للتعمين أو نتحدث عنه.

كما يجب علينا التفكير مليًا في كيفية توظيف القدرات الحقيقية والمهنية والشرائية للعمالة الوافدة وكيفية الاستفادة من وجودهم وتحسين التنافسية بينهم ورفع جودة إنتاجيتهم والارتقاء بالخدمات المقدمة منهم وذلك عبر مراقبة السوق وتعدد الجنسيات والحرص على استقطاب الخبرات وتعدد الثقافات ووضع كشوف وقواعد بيانات متجددة بالمهن والجنسيات والأعمار والتصنيف المهني والوظيفي وتصحيحه وإعادة تدوير العاطلين منهم والمخالفين الراغبين بالاستمرار في العمل بتسوية أوضاعهم وعرضهم على مكاتب الاستجلاب وأصحاب الأنشطة التجارية للاستفادة منهم والسيطرة على أعدادهم من الازدياد بمنح الأفضلية للمقيمين والتقليل من أعداد المتسربين والعاطلين فيهم ممن لم تسجل بحقهم أعمال جرمية أو أمنية مُخلة. وهذا من باب الواقعية واليقين بأننا لا يُمكننا الاستغناء عن العمالة الوافدة بأيّ حال من الأحوال وليس من مصلحتنا استعداءهم وفتح جبهات مجانية معهم وكل ما يمكننا فعله هو إدارة هذه الفئة الكبيرة بحكمة وعقل ومنطق والاستفادة منها على قاعدة لاضرر ولاضرار، فمن بين الوافدين هناك عشرات الآلاف من العاطلين عن العمل ومثلهم ممن يعملون في غير مهنهم أو تخصصاتهم.

طالما بقينا على عقليات وقناعات بأن آراء ورؤى غرف التجارة والصناعة في السلطنة بشأن تطوير القطاع الخاص ومعضلاته مجرد استشارات وآراء غير ملزمة للحكومة وكذلك الحال لدراسات وتوصيات وتقارير وملاحظات مجلس عُمان (الدولة والشورى) والمجالس البلدية، وآراء الكتاب والمعنيين والعموم على صفحات وسائل الإعلام الرسمية والاجتماعية وبرامج التلفزيون والإذاعات مجرد ترف فكري، فإنَّ معضلاتنا ستراوح مكانها لعقود أخرى وستغترف الحكومة من ذات الفشل وإعادة تدويره مرات ومرات وستنفرد به وبالمسؤولية عنه فنظرية اختزال الدولة في الحكومة وتجاوز المعنيين والمختصين والتفرد بالقرار يجب تجاوزها وإلى الأبد فعُمان اليوم بحاجة ماسة إلى ترسيخ وتفعيل ثقافة الدولة بكل أطيافها لا ثقافة الحكومة وتفردها.

قبل اللقاء: مشكلتنا التنموية الكبرى في سلطنتنا الحبيبة تكمن في التعامل مع النتائج وتجاهل الأسباب، وتكرار ذات الحلول واجترارها وترقب نتائج أفضل في كل مرة بينما المشكلة في جذرها والمنظومة المحيطة بالقطاع من تشريعات وإجراءات واللذين لا ينالهما أي مراجعة أو تقييم أو تغيير لعقود طويلة.

وبالشكر تدوم النعم

Ali95312606@gmail.com