عبيدلي العبيدلي
ينقسم العرب اليوم، في تشخيصهم لواقعهم الحالي إلى فريقين، الأول منهما لا يكف عن التشدق بإنجازات الماضي وتضخيم صورتها، حتى باتت ضرباً من الأساطير التي يصعب تصديقها. وكي يحقق هذا الطرف غايته، في تنصيب العرب في أعلى المراتب مقارنة مع الأمم الأخرى، يستحضر صورا ينتقيها بشكل جيد من أرشيف تاريخ، ما يزال بحاجة إلى الكثير من التنقيح العلمي، والمراجعة الموضوعية. ولا يتردد هذا الفريق أيضًا، في اللجوء، بين الحين والآخر إلى الأديان كي يلوي رقبة تاريخها هي الأخرى، ويجيرها لصالح منطقه المتباهي.
ويقف الفريق الثاني على النقيض من نظيره، فنجده يمارس جلدا غير منطقي، وغير مبرر، للذات، ويدخل في حالة كربلائية لطمية، تسفه الحالة العربية المعاصرة، وتجرد العرب من أية إنجازات، وتقزم نجاحاتهم، وتضفي على ذلك قشرة من التباهي بإنجازات الشعوب الأخرى، وخاصة الصغيرة منها، مثل كوريا الجنوبية، وسنغافورة، وأحيانًا دبي، بعد أن تخرج هذه الأخيرة من القائمة العربية، وتعتبرها حالة استثنائية أتثبت القاعدة التي يتحدث عنها أفراد هذا الفريق.
كلا المدخلين خاطئ، فالعرب، شأنهم شأن شعوب الأرض الأخرى، عرف تاريخهم مراحل مختلفة من الصعود الحضاري الذاتي، والهبوط الاضطراري الموضوعي، لكل منهما مسبباته العلمية، التي مكنت العرب من التنعم بإنجازات الصعود، وتذوق مرارة الهبوط، على حد سواء. فكما تباهينا، وهو أمر صحيح، بما أضافته الدولة العباسية في بغداد، والأموية في الأندلس إلى الحضارة الإنسانية من إنجازات، لا نستطيع أن ننكر ما مارسته معاول الدويلات العربية المتناحرة من هدم وتدمير للكثير من تلك الإنجازات.
هذا الانقسام يضع العرب أمام ثلاثة خيارات مفصلية، من شأنها تقرير مستقبل الأمة العربية: الأول منها اللهث وراء ذلك المنهج المتباهي، والاستمرار في غيبوبة الماضي التي يصعب التكهن بتاريخ الخروج منها. وهذا يجعل من العرب صورة كاركتورية، يهزأ منهم العدو، ويشفق عليهم الصديق، لكنها لا يمكن أن تمدهم بطوق النجاة الذين هم في أمس الحاجة له، كي ينتشلوا أنفسهم من أحلام الماضي ويضعهم أمام واقع الحاضر، شاءوا ذلك أم رفضوا.
الثاني منها الانغماس في تلك الحالة العدمية المتشائمة، التي ترفض أن ترى غير نصف الكأس الفارغة، وتصر على تقزيم أي من الإنجازات، بما فيها المعاصرة، التي يحققها العرب، وترى فيها شيئاً من الاستثناء الذي يثبت قاعدة ما لا يكفون عن الترويج لها، ونراهم هنا يهاجرون هجرة حضارية تجردهم من القدرة على المساهمة في أي تقدم عربي يمكن أن يتحقق، بل ربما، من أجل إثبات ما يذهبون له، يمعنون في تسفيه مثل تلك الإنجازات، والتندر عليها.
الخيار الثالث أمام الأمة العربية اليوم، على وجه الخصوص نخبها المتعلمة، وهو الخيار الاستراتيجي المثمر، هي تلك النظرة الموضوعية التي ترى الأمور من زاوية متجردة من العواطف التي تسيطر على المنهجين الآخرين، فترفضهما بالمطلق، وتنظر بشك موضوعي نحو المستقبل، دون أن تنفي واقع الحاضر، أو تتنكر من ذيول الماضي. ونظرتها نحو المستقبل ينبغي أن تكون محكومة بمجموعة من القيم والمقاييس والضوابط التي تهيئ العرب كي يأخذوا المكانة التي يستحقونها بين الأمم الأخرى المتقدمة.
ونقطة الانطلاق نحو هذا الهدف، القابل للتحقيق، هي توفر القيادة المؤهلة التي تتمتع بالمواصفات التي تجعلها قادرة على الانتقال من الحالة القائمة إلى تلك التي نبحث عنها. مثل هذه القيادة ستجد نفسها مطالبة، إن هي أرادت الوصول إلى ما ترنو نحوه الأمة العربية، التخلي عن نظراتها الأنانية الضيقة، ونزعاتها التسلطية المنافية لكل شروط التقدم، كي تتمكن من تقليص الثغرات التي نعاني منها، وسد الفجوات التي تتسلل منها حالة التباهي، أو قيم اللطم، وبناء منظومة القيم، ونسج شبكة العلاقات التي تحول المجتمع إلى فريق عمل متكامل منخرط في مشروع قومي متماسك قابل لتحقيق النقلة النوعية التي تحارب نظرة التشدق بأمجاد الماضي، وتتصدى لتلك التي تحاول تقزيمها.
مثل هذه القيادة، ستجد نفسها، شاءت أم أبت، في أمس الحاجة إلى شعب مقتنع بما هي مؤمنة به، ومن ثم فلا مناص أمامها من تشييد جسور الثقة والاحترام المتبادل بينها وبين أفراد ذلك الشعب، دون الوقوع في فخ أو أوهام النقاء المطلق لهذا الشعب، لكن الحديث هنا عن الغالبية العظمى منه، والسواد الأكبر من أبنائه. ولضمانة متانة هذه الجسور، وقدرتها على الصمود في وجه أية محاولات، وخاصة الأجنبية منها، نسفها، لا بد من زرع قيم المواطنة الصحيحة التي تنظم العلاقة بين أفراد الشعب وتلك القيادة، وبالقدر ذاته تحدد صلاحيات تلك القيادة وتؤطر محيطات دوائر مسؤولياتها.
ولكي نصلح أمر الشعب، وتحدد القيادة مسؤولياتها، لا مفر هناك من نظام تعليمي، حديث ومعاصر، قادر على خلق الإنسان العربي الجديد، سواء كان ذلك الإنسان قائدا أم مقادا. مثل هذا النظام المطلوب، عليه أن يحارب أول ما يحارب ذينك الخيارين المشار لهما أعلاه، وإعداد المواطن كي يكون مؤهلا للقبول بالخيار الثالث القائم على النظرة الموضوعية أولا، والمؤهل، كي يكون قادرا على صيغة ميثاق العلاقة بين المواطن وقيادته.
والوصول إلى هذه العلاقة التي تؤهل العرب لممارسة خيارهم الثالث الإستراتيجي الذي يدمر الأول وينسف الثاني، ليس هو مجرد قرار فردي، ولا حلم جماعي، بل هو منظومة تقوم على قاعدة نظام بيئي (Ecosystem) له مواصفاته العلمية التي تضمن وصول العرب إلى خيارهم الثالث الإستراتيجي الذي ندعو إليه.