الورقة الأخيرة

يوسف شرقاوي - دمشق


لن ينتظر، لا مارد هذا الزمان، لا بخّور يتجلّى في المكان.
كان الموعد: حتى نهاية الخليقة، وتفتّحَتْ الشجرة بأداةٍ حادة قُربَ البحر حفرَتْ أوّلَ اسمَين، منذ نشأة الخليقة.
هو الوترُ الخامس للكمان والقوسُ عنُقُه، يخافُ من طأطأتِه على جلدِه فيحشرج ويزقزق، يرقدُ في مصرعِ الغراب القديم، يُلقي الترابَ فوقَ جسدِه، عاري الصدر مثل زيوس، يلفُّ الحياةَ حولَ خصرِه كما لو أنّها قطّة، مثل ديميتريوس، ويحتسي من كأس نبيذٍ يرفعُه في يده، فوقَ رأسه أفعى لم ترضخ للألحان الحزينة، لم يلتقِ هيرا، فقبضَ على درع الحياة وصلبه، آريس الميّت هوَ، هو هيدز مقطوع اليد قربَ حيوانٍ غريب بثلاثة رؤوس، أبولو الأعمى هوَ. "هكذا يظنُّ مسافرٌ في اللّيل - مصابٌ بالحنين - نفسَه".
كلُّهُم عراة من كلّ شيء، إلّا الدموع كما هي، هو اللّيل الغريب، هو الشحّ الذي أصابَ الأرضَ، مصادفةً، وهو الاستسقاء الذي - مصادفةً - لم يجدِ نفعاً، هي نقمة الحياة! "هكذا يقول، ذات المسافر، في عمرٍ آخر".
قد سبقَني أحدُهم إلى الحلم، سارَ الطريق نفسه، بخطواتٍ أشدّ اضطراباً، يسقطُ المال منه ورقةٍ فورقة، هو زمن القذارة. "هكذا يتمتمُ يائسٌ في سرّهِ، وينتحب".
أنا عنقُ الكمنجة، قد هدّني رأسُ العازف النائم، اللازورد مات، والحصان فقدَ ساقَيه. "هكذا يصرخ عازفٌ أضاع تسعَ ساعاتٍ دون تصفيقةٍ واحدة".
هي الربيع في أوجِ زينتِه، يديَ الأخرى في المكان البعيد، والندى. "هكذا يصفُ عشيقٌ عشيقَتَه لأمّه الميّتة".
ستُنسَى، وتُعيد السؤالَ: أين الربيع من فصولك؟ يا حياة! "هذا ما قالته الأمّ الميّتة في حلمٍ رآه ابنُها، الميّت".
ترتعش أوتار الكمان، توقِفُ الشجنَ المُرَّ، فجأة، ويرقص الخشب: ها قد أتى اللّحن الشقيّ، آنَ لنا أن نستريح.
لأُعيد تنسيق الحياة بأسرها، سأولد عمّا قليل، في بيتٍ يكون لي، يطلُّ على سياجٍ أخضر، هنا ستكتملُ الرواية، سأكون وحدي مع مليون ورقة وقلمٍ لا ينفذ حبره، هنا ستكتمل الرواية، لا في هذا الشقاء ولا في البيت المهدّم ولا المأجور. "هكذا يتمنّى كاتبٌ مزّقَ آخرَ ورقةٍ يمتلكها، وراحت الرواية مثل سابقاتها، لبعد حين".
الطريق، بِئْسَ الطريق، هذا الطريق، زالَ أثرُ الفراشة، هَدْيُ البصيرة ضلَّ الخُطى، المفردات، كلُّ المفردات، قادتني لهذا الكلام، قيلَ ما سأقوله الآن: يسبقُنِي غدٌ ماضٍ.
كلُّهم قالوا هذا الكلام ومضوا، ومضينا في جنازاتهم خجلاً من الكلمات.
هذه الورقة الأخيرة بعد أن لملمْتُ أشلاءَها، وكانت هذه الفوضى. "هذا كلّه ما أقوله أنا".

تعليق عبر الفيس بوك