حاتم الطائي
لقاء الواقعية والشفافية في الطرح والمعالجة.. هكذا خرجتْ مُقتنعًا من اجتماعنا مع معالي الشيخ وزير القوى العاملة، يوم الخميس الماضي، بمقر الوزارة في مرتفعات المطار، والذي بَلور حِرص الوزارة على إطلاع المجتمع والمختصين والجهات ذات الصلة، على الخطط والجهود التي بُذلت خلال الفترة الماضية؛ لتنفيذ الأوامر السامية من لدن مولانا حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم -حفظه الله ورعاه- بتوظيف 25 ألفًا من أبنائنا الباحثين عن عمل؛ سواءً في القطاع العام أو الخاص؛ حيث وَازَن معاليه بين الواقع والتطلعات، واضعًا يدَه على التحديات، تمامًا كما بثَّ الأملَ بأرقام ترصد التقدُّم الملحوظ في أعداد من تمَّ توظيفهم على مدى 40 يومًا، وما تمَّ انتهاجه من إجراءات أثلجتْ الصدر حقيقةً.
فتوظيف 2097 مواطنا ومواطنة خلال الفترة 1-15 يناير- والتي رفعت إجمالي عدد المستفيدين من برنامج الخمسة وعشرين ألف وظيفة، إلى 6223 مُعيَّناً، منذ انطلاق البرنامج في الأول من ديسمبر الماضي- يعكس في جوهره عِدَّة أمور لا يجب أن تمر دون التوقف عندها؛ أولها: الكفاءة العالية والاستجابة السريعة من وزارة القوى العاملة لتوجيهات مجلس الوزراء الموقر للتعامل مع واحدة من أكثر القضايا الوطنية حساسية، خاصة إذا ما أخذنا في الاعتبار "تريند" هاشتاج "عُمانيون بلا وظائف". ثانيًا: الكفاءة التي أثبتتها تجربة التحول الإلكتروني والتي أسهمت في عمليات حصر ومتابعة الباحثين عن عمل النشطين، والتفاعل المجتمعي الواسع معها. ثالثا: شفافية الأرقام المعلَن عنها والتي كان لها دور كبير في وضع التشخيص المثالي للظاهرة، ومن ثمَّ التعامل معها. رابعًا: الآليات التي اتبعتها الوزارة لتنظيم سوق العمل بالقطاع الخاص؛ سواءً ما تعلق منها بتشكيل اللجان القطاعية للتعمين، أو بنك فرص العمل، وزيادة الطاقة الاستيعابية للتعليم التقني والمهني، وتشكيل لجنة للحوار المجتمعي تُعنى بضبط العلاقة بين الأطراف ذات الصلة (الحكومة، أصحاب الأعمال، العمال)، وزيادة حملات التفتيش. وفي الجانب الآخر، اتخاذ مزيد من الإجراءات لاستقطاب القوى العاملة الوطنية للعمل في القطاع الخاص؛ أبرزها: زيادة الحد الأدنى للأجور للحد الأدنى من المهارات، والعلاوات الدورية السنوية، وتبني برامج التدريب والتأهيل، وتحسين مزايا التأمينات الاجتماعية. الأمر الخامس والأخير: المساعي الجادة هذه المرة لتطوير منظومتيْ التعليم التقني والتدريب المهني، والتي تُترجم تطورًا في التفكير الإستراتيجي للتعامل مع قضية الباحثين عن عمل، ليس فقط بخطط قصيرة ومتوسطة المدى، وإنما على المدى البعيد؛ للحد من محدودية توافر المؤهلات؛ والتركيز على تعدد المهارات لمواجهة كافة احتياجات التنمية.
والآن.. دعونا نتفق على أنَّ نجاح أي سياسة أو خطة اقتصادية مقرون بالقدرة على خلق فرص عمل تحقِّق قيمة مضافة، وإنتاجية تدفع بعجلة الاقتصاد للأمام، وهو ما لن يتحقق دون وضع الأمور في نصابها الحقيقي؛ أولاً: قضية الباحثين عن عمل هي قضية عالمية، تُعاني منها كل دول العالم بلا استثناء. ثانياً: أي عملية توظيف تستهدف فقط معالجة الأرقام دون الأخذ بالاعتبار الحاجة الفعلية لتلك الكوادر يخلق أزمة بطالة مقنعة، وترهلا إداريا يؤخر الإنجاز. ثالثا: أصبحنا في حاجة ملحَّة لتطوير قدرات شبابنا وتمكينهم؛ لما لذلك من إفادات معنوية في تحقيق الذات، وتنموية بما يحققونه لاقتصادنا الوطني من إنتاجية بكفاءة عالية.. وهي مجموعة نقاط تكتسب أهمية بالغة اليوم؛ كون التنمية البشرية لها جانبان أساسيان؛ الأول: تعزيز الاستثمار في التعليم والتدريب، والثاني مرتبط بالاستفادة من المهارات والقدرات للقوى العاملة الوطنية بما يحقق للإنسان الحياة المنتجة والكريمة؛ باعتباره نقطة ارتكاز أي عملية تنموية في كل زمان ومكان.
وإنْ كانت الأزمات جزءًا طبيعيًّا من حياة الدُّول والأفراد والمؤسَّسات؛ فإن الشراكة الاجتماعية القائمة على تضافر الجهود هي أنجع السبل لحلها وتفادي تداعياتها، وفي قضية التوظيف لدينا، نحتاج ابتداءً تحقيق تكامل حقيقي بين أدوار الحكومة والقطاع الخاص والمجتمع المدني على أسس شراكة قوية، مع إيلاء أهمية خاصة لتوزيع الأدوار والمسؤوليات بشكل واضح؛ فالجميع اليوم بات على قناعة بأنَّ القطاع الحكومي تشبع بالوظائف، وأن المعول الآن في حل المعضلة هو القطاع الخاص؛ وبالتالي نحتاج زيادة فاعلية هذا القطاع ليكون قادرًا على تبني مبادرات تخلق وظائف للقادمين الجدد لسوق العمل، والتفاعل الإيجابي مع الاحتياجات الوظيفية -خصوصًا ونحن نُصنَّف كمجتمع فتِي، تزداد فيه القاعدة الشبابية بمعدلات عالية- مع ضرورة التركيز على جودة التعليم والاستثمار في رأس المال البشري العُماني، وتعظيم معطيات المواهب والطاقات، وتوظيف إبداعاتهم بشكل أفضل عبر بوابة جودة التعليم، شريطة أن يواكب ذلك جهدا مستمرا للمواءمة بين مخرجات التعليم واحتياجات السوق، وتقديم مزيد من الدعم لقطاع ريادة الأعمال؛ لضخ دماء جديدة في شرايين اقتصادنا الوطني، ومن ثمَّ تعميق قاعدة اقتصادنا الوطني، والاستفادة من برامج التنويع الاقتصادي الواعدة، لخلق مزيدٍ من الفرص، واستيعاب مزيدٍ من القوى العاملة الوطنية؛ فطموحات المجتمع تتخطَّى حاجز الخمسة وعشرين ألف وظيفة؛ الأمر الذي يفرض تسارع وتيرة العمل لإيجاد مزيدٍ من الشواغر.
إنَّ كل الجهود المبذولة اليوم من أطراف المعادلة، وما ننادي به وينشده الجميع من أجل حل قضية التوظيف، لابد أن يناظرها تغير في ثقافة الأجيال الحالية والجديدة من شبابنا وفتياتنا؛ ممن بات مطلوباً منهم مُكافأة هذا الحِراك المجتمعي الساعي لضمان توفير فرص عمل ترقى بواقعهم وطموحاتهم؛ إذ عليهم القبول بما يُتاح من فُرص، وإثبات الذات، والبناء على ما يتحقق لهم للانتقال لمستويات أعلى وأعلى؛ فطريق الألف ميل يبدأ بخطوة، وليس من المنطق أن يظل المرء منتظرًا فرصة يبدأ معها مسيرته من أعلى قمة الهرم، وهو بالتالي ما يحتاج منا نحن جيل الآباء خصوصًا، والمجتمع بمختلف آلاته الفاعلة، غرس قيم العمل لدى الأجيال الصاعدة، وتعزيز ثقافته، ليُصبحَ مُكوِّناً أساسيًّا في تركيبتهم النفسيَّة والتربويَّة، فإرساءَ مفهوم العمل كقيمة حضاريَّة لدى الأجيال الجديدة، هو الضَّمانة المُثلى للتقدُّم في سباقنا الحضاري، والضمان الحقيقي لمعالجة إشكالية التوظيف من جذورها.