"لا تحتل مساحة أكبر مما ينبغي لك"

د. سيف المعمري

ما أجمل الوصايا التي تلامس واقعنا، وتجعلنا نفهمها بشكل أفضل، استرجعتُ خلال الأسبوع الماضي بعضا من وصايا المعلم الروحي "ك.إ. كيورجييف"، الذي توفي قبل أن يكتمل النصف الأول من القرن العشرين، تاركا عالما يتنازع أفراده المساحات سواء كانت دولا أو مؤسسات؛ حيث قال: "لا تحتل مساحة أكبر مما ينبغي لك"، تضيق المساحة التي يشغلها الإنسان أو تتسع بمقدار السلطة التي يتمتع بها، والأمر ينطبق تماما على جماعات ومؤسسات ودول، وكأننا أمام مساحات لا أوطان، وأمام أفراد لا مؤسسات، وهنا تكمن الخطورة التي تجعل من الفرد في حالة استعداد دائما؛ إما للحفاظ على المساحة التي يقف عليها حتى لا يزيحه عنها أحد، أو في سبيل توسيع هذه المساحة، وما يرافق ذلك من زيادة المنافع التي يمكن أن تأتي بها المساحة الجديدة. لذلك؛ تزيد حدة الصراع الخفي من أجل احتلال المساحات ومع كل سيطرة على مساحة يفقد كثيرون مساحاتهم التي توفر لهم ما يحتاجون، إنها حالة من حالة المواطنة التي تقود إلى صناعة فئات مهمشة، وصفها المنظر البريطاني تي مارشال منذ أكثر من سبعين عاما بأنها تقسم المجتمع إلى طبقات وتوسع الفجوة بينها؛ لأن المساحات تتسع فلا يكاد أحد يمكنه أن يلتقي بأحد، لذا ركز على أهمية تحقيق المواطنة التي تكفل للجميع حقوق في المساحات التي ينتفعون منها.

علينا أن نطرح سؤال المساحات التي يشغلها أفراد من أبناء هذا الوطن، ونطرحها معها القرار الذي يرتبط بها، ونضرب المساحة في الإشكاليات التي نتجت عن شغل تلك المساحات المؤثرة جدا لفترة طويلة على في صناعة الفرص، وتوفيرها لمعظم المواطنين الذين لا يملكون من المساحات إلا الوظيفة التي وضعت لها قيود وشروط وسدود، ومهما اجتهد الإنسان فيها يحاسب ليس على نجاحه، وإنما على إخفاقه؛ وبالتالي هو يخسر ليس توسعة مساحة فيها امتيازات في الراتب أو المكافآت، إنما يخسر مساحة الأمان التي لا ينشد سواها، والتي تبدو أمامه أشبه ببقعة وهمية ينشد الوقوف عليها، لكنه يحرم منها؛ لأن مساحات الأمان الوظيفي لم تعد حقا للجميع، إنما هي امتياز لا يحصل عليه إلا من كان من أتباع صاحب المساحة الكبرى في المؤسسة.

لكن الإشكالية ليست في السيطرة على المساحات المؤقتة للقرار، إنما في السيطرة على المساحات الدائمة؛ فالمساحات المؤقتة -وإن طالت فترة السيطرة فيها لعدة سنوات- سيأتي يوم ويتركها صاحبها بدون تقرير وظيفي يكشف عن حجم الإنجاز والإخفاق، يتركها كما هي بإشكاليتها والكلفة الباهظة أحيانا لمعالجتها، أو في بعض الأحيان بدون معالجة لاستحالة ذلك، لذا تُحتل مرة أخرى بصاحب جديد لا يعرف إن كان سيقيم فيها على نهج من سبق أم سيتبع نهجَ الجميع ويحافظ على مساحات الجميع من موظفين ومواطنين فيها، أمام احتلال المساحات الدائمة فهذا يقود إلى صناعة واقع اقتصادي واجتماعي مختلف جدا، يتمكن فيه البعض من توسيع مساحاتهم بصورة أكبر من يتوقع، في الوقت الذي يخسر كثيرون القدرة على الحفاظ على مساحاتهم نتيجة الضغوط التي يواجهونها في مختلف القطاعات نتيجة ارتفاع الأسعار والخدمات، ونتيجة ضعف القدرة على المنافسة لدى الذين يمكن أن يغامروا، ونتيجة ضعف الثقة في مؤسساتهم من قبل أصحاب المساحات الأكبر، ونتيجة عدم قدرة المساحات التي يشغلونها على تعديل القوانين لكي تحميهم وامتيازاتهم، أو توفر لهم الفرص التي يحتاجونها لكي يوفروا متطلبات حياتهم، أو لكي يمارسوا حقوقهم، أو لكي يدافعوا عنها، أو لكي يعززوا من مبدأ الشفافية وتكافؤ الفرص، ولكي يُرسوا قاعدة الأنسب والأجدر، وليس الأقرب في المساحة.

إنَّ احتلال مساحات أكبر مما ينبغي من قبل بعض متخذي القرار في الوزارات والمجالس والهيئات المختلفة، أثبتت السنوات أنه إعاقة للنمو التنموي، ولم يُقدم  حتى الآن أي مؤشرات على سلامة هذا النهج، بل إن القراءة المتعمقة تشير إلى أنه كلما طالت فترة مكوث متخذ قرار في المؤسسة التي يشغلها، تراكمت الإشكاليات نتيجة لذلك، لذا فإن المرحلة التي يمر بها البلد وما ينتج من ضغوطات اقتصادية على المواطنين مرشحة إلى التنامي في السنوات المقبلة، تتطلب مراجعة لمعايير البقاء في إدارة المساحات المتعلقة بحياة المواطنين والحقوق الاجتماعية التي تقدم لهم، فلا يمكن  التخفيف من تلك الضغوطات إلا بإعادة التفكير في وضع معايير تحدد شروط شغل المساحات والبقاء فيها، كان النظام العثماني يتبنى نظام الثلاث سنوات في البقاء في الإدارة خشية تكوين النفوذ وتوجيه المؤسسة إلى خدمة أغراض خاصة، لكن البعض لا يزال يرى في عصر السرعة التي يمضي بها العالم أن ثلاث سنوات هي فترة قصيرة لا يتمكن فيها متخذ القرار الأكبر إلا من التعرف على مؤسسته، لكن ماذا إن تضاعفت الفترة إلى ضعفين أو ثلاثة أو خمسة أو ستة أو أكثر من ذلك، دون ابتكار وتطوير للمؤسسة، دون بناء مؤسسة متميزة، دون بناء مؤسسة تقل فيها الإشكاليات، دون مؤسسة تعد نموذجا للمؤسسات في البلد، هل يكون المعيار فقط هو تسيير المؤسسة بأي شكل كان، إذن لماذا كل هذه المعايير والشروط التي يقيد بها الموظف إن كان الموظف الأكبر لن يقيم إنجازه؟ ولن يمنح تقديرا محددا أو لن يُوضع تحت الملاحظة أو لن تُشكل له لجنة لمناقشة عدم إنجازه لما يجب؟ ما قيمة البقاء في مساحة أو اثنتين أو ثلاث دون مؤشرات تحدد الاستمرار والتجديد أو الخروج؟

لا يكتفي المعلم الروحي "ك.إ. كيورجييف" بتحذيرنا من أن لا نشغل مساحة أكثر مما ينبغي، لكنه يمضي أكثر ليقول كلاما عميقا لكل من يشغل مساحة عامة يعمل منها على خدمة المواطنين ورعاية مصالحهم وحقوقهم؛ فيقول:

"احترم العقود التي وقعتها

لا تُلْقِ بالأوامر لمجرَّد إشباع شهوة طاعة الآخرين لك

سدِّدْ ثمنَ الخدمات التي يؤدِّيها الآخرون من أجلك

لا تدافعْ أبدًا عن أفكار قديمة لمجرَّد أنك أنت مَن عبَّر عنها

احصلْ على الأشياء كي تقتسمها".

ماذا لو اقتسم كل من يتواجدون في هذه المساحات المؤثرة الأشياء مع الآخرين؟ كيف سيكون هذا الوطن؟