الحياة الفكرية والثقافية في عـُمان في النصف الثاني من القرن الثامن عشر:

شعر السلوك (التصوف) (5/11)

د. صالح بن عامر الخروصي – سلطنة عُمَان

 

(السلوك) في الاصطلاح الصوفي يقصد به: تهذيب الأخلاق ليستعد العبد للوصول إلى الله سبحانه وتعالى بتطهير نفسه عن الأخلاق الذميمة والتحلي بالأخلاق الحميدة. وقد تأثر الاتجاه الصوفي ببعض الأفكار الدخيلة، إلا أن بعض المتصوفة ظلوا ملتزمين بالشريعة وبمبدأهم الذي يقول : " كل شريعة غير مؤيدة بالحقيقة فأمرها غير مقبول، وكل حقيقة غير مقيدة بالشريعة فأمرها غير محصول". وقد شهد النصف الثاني من القرن 18 الميلادي دخول العمانيين عالم التصوف و اختاروا الاتجاه الذي رأوه موافقا للشريعة الإسلامية وأطلقوا عليه اسم (السلوك). و يرى الإباضية أن فكرهم في عمومه فكر تنزيهي لا يدعو إلى اتخاذ الأذكار مجرد جلسات وطقوس وتجمعات وأناشيد تتلى، وإنما يفضلون الخلوة واستعمال الأوراد متأثرين بما يسمونه التراث الصوفي النقي، وبالنظر إلى ما كتبه الشيخ الرئيس أبو نبهان جاعد بن خميس الخروصي من مواضيع انفرد بها عمن سبقه يمكن القول أنه رائد الحركة السلوكية في عمان. وترتب على ظهور هذا الاتجاه السلوكي تجديدا في أغراض الشعر العماني على يدي أبي نبهان، فبدلا من التغزل بالمحبوبة، وإظهار مشاعر الحب والهيام بها، اتجه الأمر نحو محبوب آخر هو الذات الإلهية، وبدلا من وصف مجالس الندماء وتجاربهم الخمرية ، أخذ الاتجاه الجديد من هذه الموضوعات مجالا لوصف تجربة أخرى للتعبير عن أساليبهم في السلوك إلى الله تعالى. ومن الأمثلة على ذلك قول أبي نبهان في إحدى قصائده  :

ولو أن نور الحـب أورى بقلبــــــــــه
أوار الهـوى أمسى وفي جـسمه نـُحلُ
وخمر الهوى لو خامر القلب بالجوى
 لما رده بذل ولا صـده عـُكــــــــــــلُ
ولو أنه صب شجـي من الهـــــــــوى
لما رام غيـرا لا ولا مسـه كـّــــــــــلُ
    
 اتصف شعر السلوك بكثرة الإحالة إلى القرآن والحديث  تأثرا بالنزعة الدينية، ولا عجب في ذلك إذ انحصرت مواضيع شعر السلوك في الزهد والتحذير من الدنيا وعذاب الآخرة، وطلب المغفرة من الله، والمناجاة الإلهية، ومخاطبة النفس، والدعوة لإصلاح الأخلاق، وذلك كله في إطار رغبة جامحة في التخلص من علائق الذنوب، كما شاعت فيه لغة الرمز، والضمائر المقرونة بحروف الجر.

عرف الأدب العماني بظهور الشعر السلوكي لونا جديدا من ألوان الشعر لم يكن يعهده من قبل، زاده ثراءا وخصوبة، وفتح له الطريق نحو المزيد من التجارب الخاصة التي لونت الشعر بلونها من جهة، وبثت فيه روحا جديدة ابتعدت فيه عن التقليد إلى حد كبير من جهة أخرى. كان (الزهد) هو الموضوع الأساسي في شعر السلوك، وكان التوجه إلى النفس في محاولة لرسم معالم إصلاحها والخروج بها من ربقة الهوى إلى عالم يسمو بها إلى مرتبة العبودية الحقيقية لله عزوجل من أهم الغايات التي ينشدها شعراء السلوك، ونجد ذلك في قول أبي نبهان:

فقدس هديت النفس من رين جهلها
به عاجـلا تمحـق به الــذات والذنبا
وبادر إلى تجـريدهـا من مزاجهـــا
وإخراجـها من يـم أمشاجـها سحبـا
فإني أراهـا عن يقين غـريقة علـى
قبحـها في قعـر بحـر الهـوى عطبا

وإذا ما التزم الإنسان بإصلاح النفس فإن الغاية تتمثل في السعادة الأبدية بدخول الجنة، وحينها تستحق تلك النفس التهنئة لوصولها إلى تلك المرتبة، يقول أبو نبهان في ذلك مستخدما بعض مصطلحات الصوفية كالمريد والمقامات

مضى في مقامات اليقين على الرضى
نشــا فانتشى عن غيــره والهــا رعبــا
عميــدا لمـولاه مـريــدا لـه بــــــــــــــه
يعـب الـــذي أولاه في حــبه نعبـــــــــا
هنيــئا له يــا حـــبذا مـن سميــــــــــدع
صفــي خــفي والعـــصي له تبـــــــــــا

إن المضي في طريق السلوك لا بد له من قيادة، إذ يرى الصوفية أنه لا بد لكل (مريد) من شيخ يرشده وينير دربه ليحفظه من نفسه ومن الوقوع في الخطأ. وفي ذلك يقول أبو نبهان:

قــدحــت زنــادا تستضــيء بنوره
ألبــاب كل العـــارفيـن وتشــــرق
قرشـــت لنــار آنســت أنوارهــــا
تمحــو من البــال الخـيال وتمحق
قحمت لهم وادي المقدس بالهدى
فنــودوا ألا هـذي الحـقائق تنطق

صقل الشيخ أبو نبهان تجربته (السلوكية) عبر العديد من القصائد الشعرية والإنتاج النثري حتى بلغ غاية مراده عبر قصيدته (حياة المـُهـَج) ، ويقول في مطلعها:

تبيـــــن أخـــي في الله قـــولي فإننــي
على النصح في ذات الإله مع العتبى

ويتضح البعد الصوفي في هذه القصيدة من عنوانها، فالمهج عند الصوفية مصطلح يعني جميع محبوبات الإنسان من نفس ومال وولد. والقصيدة من مائة بيت ختمها الشيخ بقوله:
وتمت بحـــمد الله خــــذها كـــأنـــها
من اليعملات الهوج أعدادها عصبا

وفي شرحه لهذا البيت يقول: " أعدادها عـَصبا أى مائة من الإبل" ، وبها دل على أن هذه المنظومة مائة بيت، وأنه قد مثل كل واحدة منها بناقة، لأنها تقطع به إلى الله تعالى كل مهلكة. وتعد هذه القصيدة أقرب للمنظومة منها للشعر، فقد تضمنت مصطلحات صوفية محضة نظرا للموضوع الذي تحدثت فيه، بالإضافة إلى مجموعة من الأوامر والنواهي.
وقد فصل الشيخ في قصيدته طرق الوصول إلى سبيل الحق لمريديه ذاكرا فيها مقامات السالكين وأحوالهم، ففي مقام (التجريد) مثلا يقول:

وبادر إلى تجريدها عن مزاجها
وإخراجها من يم أمشاجها سحبا

وفي مقام الكشف والمشاهدة يقول:
وإن أدرجت في مدرج الكشف روحه
رأى في مــرايا الكــشف نورا به يسبا
فإن شاهد المشهود لم ينظر الــــورى
لما قـد يرى مـا يدهش النــفس والقلبـا

وقد فسر الشيخ المشاهدة هنا بالمشاهدة القلبية لا بالمشاهدة العينية.

حاول الشيخ أبو نبهان في قصيدته حياة المهج تعليم (المريد) كيفية السلوك إلى الله تعالى بتوضيح خطوات ذلك الطريق، باعتباره شيخا عارفا بمقاماته وأحواله. كما حاول فيها التخلص من التكلف والتصنع ما أمكنه ذلك. ونظرا لأن الفكر الصوفي بشكل عام كان مدعاة لإثارة مشاعر الخوف والقلق على الدين من قبل المسلمين وخاصة العلماء ـ إذا ما علمنا أن الصوفية دخلتها بعض الأفكار المغرضة ـ ، كما أن الأدباء والنقاد لم يجدوا في الفكر الصوفي غير سطحيته وعدم نضوجه في بدايات ظهوره لارتباطه بالسرية ، نظرا لكل ذلك قدم أبو نبهان شرحا لقصيدته حياة المهج شرحا أدبيا ونقديا شاملا غلب عليه طابع الإطالة والإسهاب، واتصفت لغته بالتكرار والسجع ، وهي اللغة المعهودة في كتابات الصوفية رغم محاولته التخلص من ذلك، كما أحال في تفسيره إلى نصوص قرآنية وأخرى من الأحاديث النبوية الشريفة. وفي شرحه للأبيات يبدأ بذكر المعاني الغريبة، ثم يشير إلى ما فيها من استعارة أو كناية، مع توضيح جيد للصورة الفنية التي يتطرق إليها، ثم يتناول الجوانب اللغوية من نحو وصرف، ثم يشرح البيت شرحا أدبيا ، ثم ينتقل إلى شرحه صوفيـا فيتحول إلى شيـخ يرشـد مريـده . و كان يراعي الفروق الفردية وتفاوت مستويات الفهم لدى قراءه ومستمعيه.
 
بعد الشرح الذي قدمه أبو نبهان لقصيدته قدم ولده الشيخ ناصر شرحا إضافيا للقصيدة ذاتها، تميز شرحه بالبساطة والسهولة والاختصار والبعد عن التكلف، مراعيا استخدام منهج مشابه لمنهج والده من حيث الشرح اللغوي والفني والنقدي. ولا عجب أن يأتي شرح الشيخ ناصر راقيا لأنه نهل من علوم والده، وكانت له تجاربه الخاصة، ومنها شرحه قصيدة ابن الفارض المعروفة بالتائية الكبرى والمسماة نظم السلوك ، وقد كان ابن الفارض من الشخصيات التي تأثر بها علماء السلوك العمانيون لما لمسوه من اعتدال في مذهبه الصوفي. تضمن شرح الشيخ ناصر مجموعة من المصطلحات السلوكية التي لم يسبقه إليها أحد مثل "النظر الإيماني" و"عيون العقل" و"كعبة نور الإيمان" و"العقل مسجد الرب" و"الحضرات القدسية" و"بحر العلم الكشفي" إلخ، وبهذا أضاف مصطلحات جديدة للسلوك شرح بعضها في كتابه (الإخلاص) وبعضها الآخر في كتابه (إيضاح نظم السلوك).

تعليق عبر الفيس بوك