روائح من الذاكرة

مدرين المكتومية

هناك في زوايا المكان الذي نعتاد التَّردد عليه ثمّة رائحة تظل عالقة بنا، لا يُمكننا نسيانها أو تناسيها أبدًا.. تذكرنا دومًا بالأشخاص الذين ينتمون إليه؛ لدرجة أنك لن تخطئ في رائحة عطر أحدهم، أو رائحة تبغه؛ وربما رائحة انتماءاته الفكرية والسياسية أيضًا؛ مثلما لا نخطئ في تمييز رائحة كعكة بالفراولة أو قهوة بالحليب أو عبق الزنجبيل في الشتاءات الباردة.

تلك الروائح التي قد يعتقدها الشخص أمرًا عاديًا ولا يُمكن تصنيفها إلى شيء مهم في الحياة أو أنَّها فقط مجرد رائحة التقطتها حاسة الشم هي في الحقيقة مهمة جدًا، يزداد فهمها وأهميتها أكثر لو قرأت رواية "العطر – قصة قاتل" لباتريك روسكند. ستصل لقناعة أنّ الروائح مهما كانت نتانتها وقذارتها إلا أن لها طابعاً خاصًا وارتباطًا بشيء معين يجعلها تظل عالقة بين أضابير الذاكرة، فمهما كانت بالسوء الذي نظن إلا أنها حكاية للذاكرة. ليس هذا فقط فلو اقتربنا قليلاً من التفاصيل التي خطها الكاتب لوجدنا أن لكل شخص رائحة جسد مميزة تختلف عن الآخر، يستشعرها فقط الشخص الذي لديه ارتباط كبير بالروائح والطفل.. نعم الطفل، لذا لا غرابة في أن تجد طفلاً مرتبطًا بأمه أو بالرداء الذي ترتديه أو الغطاء الذي تغطيه به.

ربط كاتب الرواية الروائح بتفاصيل حياته، وجعلها خارطة طريق لما وصل إليه، صحيح أنَّ الرواية في مجملها تتحدث عن قاتل؛ إلا أنه كان يقتل لهوسه بالروائح، فثمة شيء ما يجذبه إلى رائحة تلك الأجساد التي راحت ضحية هذا الشيء، كان يقتل دون أن يهتم بالإطار الخارجي فقط لإرضاء غرور "أنفه الصغير".

لو تحدَّثنا عن الروائح على مستوى الحياة التي نعيشها الآن لوجدنا أن الروائح ليست رهينة حاسة الشم فقط نتعايش معها كما نتعايش مع الحواس الأخرى، وإنما هناك شيء ما يجعلنا نشتاق بشكل مستمر لرائحة العطور والأزهار، وراحة المكان بعد مرور شخص ما فيه، ولو لم تكن الروائح مهمة لما كان هناك اختلاف بين شخص وآخر حول أي العطور يفضل، ولَما وضعنا كفوفنا على أنوفنا عندما يلقي علينا أحدهم التحيّة لنشتم رائحة عطر جميلة خلّفها، ولما وقفنا في زاوية لنقول يا الله كم اشتقت لتلك الراحة.. ولكّني أعرفها.. يا ترى أين شممتها من قبل...إلخ؟

ستظل ذاكرتنا تقلب ما تناسيناه من روائح لتفتح لنا أبوابا من الذاكرة تأتي بعد أزمنة مُختلفة لتعيدنا للحظة نفسها والوقت والمكان الذي تعلقت فيه أنوفنا برائحة أحدهم كادت أن تكون يومًا ما كل ما نحب ونملك.

 

madreen@alroya.info