إشراقات "ميزانية 2018"

حاتم الطائي

لم يأتِ المرسومُ السلطانيُّ الأوَّل لهذا العام، قاضيًا باعتمادِ الميزانيةِ العامةِ للدولة فحَسْب، بل مثَّل ميلادَ مرحلةٍ جديدةٍ من مراحل تطوُّر إدارة المالية العامة للدولة، بمُمكِّنات تُسهم بشكل فاعِل في استيعاب تحديات المستقبل، والإفلات من دوَّامة "صعد النفط.. هبط النفط"، بما يُمثِّل إعلانًا لخروجٍ آمنٍ لبلادنا من دورة اقتصادية ضاغطة، على قدر ما مثَّلته من تحدٍ مُعرقِلٍ، بقدر ما أماطت اللثام عن تحوُّلٍ في التعاطي الرَّسمي والشعبي معها، وعُمقٍ في التفكير الإستراتيجي المتطوِّر لتفادي تبعاتها، مع ضمان عدم المساس بحقِّ المواطن، الذي كان ورقة الرهان الرابحة طِيلة العاميْن الماضيين.

لن أبالغ إن قُلت بأن جُملة المُؤشرات الإيجابية التي تمخَّضت عنها أرقام ميزانيتنا الجديدة تدفع نحو مزيد من الشفافية، ومزيد من الاطمئنان، ومزيد من التفاؤل؛ إذْ عكستْ استيعابَ الحكومة للنبض الذي اعتمل في المجتمع طوال الفترة الماضية، وقناعة رشيدة بأننا في سِباق حقيقيٍّ مع الزمن، فتُرجم ذلك إلى أهدافٍ واضحةٍ وموصوفةٍ لمختلف قطاعات التنمية، وحِراك واسع لدراستها بصُورة منهجية، ومُعالجة أوجه الضعف والقصور؛ بما يُمهِّد الطريق لتنميتها، وتعظيم إسهامها الفعلي في اقتصادنا الوطني.

ومن الإشراقات التي حفلتْ بها بُنود الموازنة الجديدة: حجم الإيرادات المُتوقع عند 9.5 مليار ريال.. صحيح أن قراءته مع الإنفاق العام المقدَّر بـ12.5 مليار ريال، يعني عجزًا عند 3 مليارات ريال، إلا أنَّ هذه الإيرادات تزيد باتجاه تصاعدي عن مثيلاتها في 2017 بنسبة 3%، كما إنَّ العجز الناتج يبقى ضمن المستويات المنخفضة وفق المؤشرات الدولية، مع ضمان وسائل ناجعة لتغطيته، تُحافظ على احتياطيات الصناديق السيادية وتجنِّب السحب منها؛ الأمر الذي يضمن الاستقرار المالي والاقتصادي.

وفي جانب آخر، تقدِّر الميزانية الجديدة الإنتاج النفطي اليومي عند 970 ألف برميل في المتوسط، واعتماد 50 دولارا للبرميل كسعر افتراضي، تُخصَّص عوائد 20 ألف برميل منها يومياً لسداد القروض. ولنا هُنا وقفتان كذلك؛ أولاهما: الواقعية في اعتماد سعر البرميل، والثانية التحوُّل في النظرة للنفط من كونه مصدرًا أحاديًّا لرفد التنمية، إلى مُجرَّد مُساهم في تغطية أوجه مُعينة من العجز المالي للدولة، خصوصًا إذا ما وُضِع في الاعتبار هذا الارتفاع الملامِس لحاجز الـ30% لحساب مُسَاهمة النشاطات غير النفطية في الإيرادات، والعمل على تفعيل إشراك القطاع الخاص في تنفيذ وإدارة عدد من مشاريعنا التنموية مستقبلًا.

إشراقات "ميزانية 2018" تعدتْ ذلك لبقية بنود الصَّرف، التي ظلت مُحتفظة بمُستوياتها، خاصة المشاريع المخطَّط لها، وتلك التي هي قَيْد التنفيذ؛ تأكيدًا على التزامٍ جاد بمواصلة واستمرار مسيرة التنمية رغم التحدِّيات والظروف التي لا تزال -بعض الشيء- غير مُواتية؛ يعكس ذلك مبلغ الـ1.2 مليار ريال عُماني، المخصَّص كسيولة نقدية مُقدَّر صرفها خلال العام الجاري لعدد من المشروعات الإنمائية؛ وعلى رأسها: المشاريع الاستثمارية في المنطقة الاقتصادية الخاصة بالدقم، كمشروع المصفاة، ومجمع تخزين النفط، ومصنع كروه (للحافلات)، والمدينة الصينية-العُمانية، ومشروع "سباسك"، وحزمة من مشاريع التطوير العقاري، وهذه المشاريع في حقيقتها، والسيولة النقدية المخصصة لها، تُبرز حجم التحوُّل الإيجابي في إستراتيجيات الجذب الاستثماري المؤهلة للتنافس عالميًّا.

كلُّ هذه الأرقام والمؤشرات، لم تدُر بعيدًا عن فلكها، المشمول برعاية سامية منذ إشراقة فجر نهوضنا المبارك، والمتمثل في البُعْد الاجتماعي المتعلِّق ببناء الإنسان وحياة المواطن بصورة مباشرة؛ سواءً أحقيته في التعليم أو السكن أو الخدمات الصحية؛ يُمثل ذلك أكبر حِصَص مُوازنة هذا العام بقيمة تقريبية 3.9 مليار ريال (%38 من إجمالي الإنفاق العام).. فإلى جانب التعهُّد بعَدَم المساس بالعلاوة الدورية للموظفين، تولي الميزانية الجديدة رِعاية خاصة لاستكمال تنفيذ مشاريع البنية الأساسية بعدد من المناطق السكنية، واستكمال مشاريع شبكات المياه، والتوسع في مشاريع القطاع الصحي، علاوة على المخصصات اللازمة لاستكمال تنفيذ برنامج البعثات الخارجية والداخلية للطلاب العُمانيين، وتجهيز عدد من مدارس التعليم العام الجديدة، امتدادًا لمظلةِ رعايةٍ إنسانيةٍ أولتها قيادتنا الحكيمة عَيْن الاهتمام طوال العهد الميمون لجلالته - أيده الله.. فالمجتمع المتعلِّم الذي يتمتع بصحة جيدة، وآمن على مسكنه، هو بحد ذاته استثمار يحقق أكبر العوائد في أي دولة.

... لقد بدتْ تكاملية التخصيص واضحةً في العناية بالبُعدين التنموي والاجتماعي؛ وهو ما ركَّز عليه البيان التوضيحي لوزارة الشؤون المالية؛ الذي بعث مزيدًا من رسائل الاطمئنان حول جهود التصدِّي لارتفاع الدين الخارجي ومصاريف خدمته، وآليات تنشيط الإيرادات غير النفطية، وتعديل قانون ضريبة الدخل، وتعديل بعض الرسوم الخدمية، وعدم التوسُّع في الهياكل التنظيمية في الوزارات، مع مُراجعة منظومة الدعم الحكومي؛ بهدف ترشيد استخدامه وتوجيهه وحصره على الفئات المستحقة، مع التأكيد على إعطاء أولوية التنفيذ للمشروعات الضرورية التي تخدم الأهداف الاقتصادية والاجتماعية، والتريث في تنفيذ المشروعات غير الملحة، وإشراك القطاع الخاص في تنفيذ وإدارة بعض المشاريع والمرافق والأعمال لتخفيف العبء المالي عن الموازنة، والإبقاء على مستويات ومعدلات الاستثمار التي تحفز النمو الاقتصادي وتضمن رفاه المُواطن.

ويبقى القول في الأخير.. إن "ميزانية الخير" للعام 2018، والتي صِيغت واعتُمدت وأُعلنت في توقيتٍ زمنيٍّ فارقٍ من مسيرة ارتقائنا الوطني، لتَعِدُ بالكثير؛ إذ تمهِّدَ بأرقامها الواعدة، ومُؤشِّراتها التنموية المتوقعة، سبيلًا جديدة لبناء قاعدة اقتصادية وطنية قوية، ليس النفط وَحْده هو قاعدة الأساس والانطلاق فيها، بل عُنوانها الرئيس: مستقبل اقتصادي وطني أكثر كفاءة وشمولية.