لا يسألون الناس إلحافا

سان بن عيسى الروشدي

 

كُنت أسير على الشارع عندما لمحت أحدهم يُؤشر بيده محاولاً أن يستوقف المارةّ، كان ضخم البنية الجسمانية، تقف بجانبه زوجته التي كانت تحمل رضيعًا، وعلى الجانب الآخر يقف ولده الذي لا يتجاوز عمره الثلاث سنوات، وقفت على كتف الطريق، وتراجعت إلى الوراء محاولاً تقديم مساعدة له ولعائلته الصغيرة تلك، ركبوا جميعًا، وبدأ يشتكي ضيق الحال، وشدة الحاجة.

بدأ يفضفض دون أدنى حدود ولا حواجز بعدم مقدرته على شراء كيس حفاظ طفلته الرضيعة حتى، ومع كثرة شكاويه وأنا أحاول أن أشد عزمه بأن كثرة الشكوى والتذمر إلى الخلق لا خير فيها، وأن الفعل خير من الجلوس وندب الحال والحظ حتى أوصلته إلى وجهته التي يُريد، نزلتْ زوجته وبدأ هو يعاود شكواه بأنه لا يملك من المال حتى ما يعينه على شراء وجبة يسد بها جوع طفله، فهمت مغزاه من تلك الشكاوي المتكررة ولكنني تجاهلت ذلك الأسلوب العاطفي الذي كان يستخدمه، همّ بالنزول ولكن قبل ذلك سألني مالاً أعطيه يعينه على دفع تكاليف العودة بالتاكسي، ناولته ما طلب ولكن ليس إخلاصًا لأن تكون صدقة وإنما رأفة بذلك الطفل ورحمة بتلك الرضيعة.

كنت ولا زلت أعتقد بأن الصدقة محرمة على مثل هؤلاء، لا يعاني نقصاً، ولا إعاقة، ولا حتى خللا أو مرضا يعطله عن أن يكسب المال الحلال دون أن يمد يده إلى الناس، ولا أجد أصدق وأبلغ من كتاب الله حين وصف أهل الحاجة والفقراء الحقيقيين عندما قال عنهم "لا يسألون الناس إلحافا" قال الشيخ عبد الرحمن السعدي في تفسير هذه الآية: "فهم لا يسألون بالكلية وإن سألوا اضطرارا لم يلحفوا في السؤال، فهذا الصنف من الفقراء_ أي الذين حبسوا أنفسهم في سبيل الله وطاعته، وليس لهم إرادة في الاكتساب أو ليس لهم القدرة عليه_ أفضل من وضعت فيهم النفقات لدفع حاجتهم". وليس مثل هذا الحرّ المتمع بكامل قواه العقلية والجسدية. إن المحتاجين والفقراء الحقيقيين يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف، تمامًا مثل ذلك الآسيوي الذي يعيش في بيت أشبه بالزريبة ولا يأكل إلا من كسب يده، وعلاوة على ذلك يرسل ما تبقى من كدح عرق جبينه إلى أسرته في موطنه الأم، ويكاد لا يغيب عن مخيلتي أحد الإخوة وهو يحاول أن يناوله مبلغا رمزيا من المال، ويصرّ ذلك الآسيوي على الرفض ويشير بسبابته إلى السماء، وكأن لسان حاله يقول: "وفي السماء رزقكم وما توعدون"، كم تمنيت أن يكون رب الأسرة هذا الذي كان يستوفقني لأوصله شاهداً على منظر ذاك العامل وهو يستعفف من أن يكون في موضع رأفة وعطف للآخرين.

لا نختلف مطلقاً في الفقر والفقراء وقلة الحيلة ولكن يبقى سؤال الناس ومد يد الحاجة لهم عادة لا تليق بمن لا يعاني ضعفا أو مرضًا  يمنعه عن الكدح من أجل لقمة عيش مصدرها عرق الجبين والعزة والكرامة لا الذل والهوان للآخرين، ولأن أستدين من أحدهم خيراً لي من أن أعرّض نفسي وأسرتي لرأفة الناس مثلما فعل ذاك الرجل آنف الذكر.

Gbn2232@gmail.com

تعليق عبر الفيس بوك