مقاربة اقتصادية للعولمة

علي الرئيسي

أكثر ما يتبادر إلى الذهن عند الحديث عن العولمة هو الاقتصاد، نظرًا إلى الترابط العميق بينهما من جهة، ونظرا إلى التجليات الاقتصادية الأكثر وضوحا وأسبقية وسرعة في التحقق على أرض الواقع. لاشك أن النظام الاقنصادي العالمي اليوم هو نظام واحد تحكمه أسس عالمية الطابع، وتديره مؤسسات وشركات عالمية ذات تأثير في كل الاقتصادات المحلية. أما الأسواق التجارية والمالية العالمية فهي لم تعد موحدة أكثر من أي وقت فحسب، بل أصبحت خارجة عن تحكم كل دول العالم.

فقد برز تقسيم جديد للاقتصاد في ما يتعلق بانتقال السلع والخدمات ورأس المال، لقد بلغ النشاط الاقتصادي العالمي مرحلة الانفصال عن الدولة وعن الاقتصادات الوطنية التي كانت إلى وقت قريب جدا قاعدة هذا الاقتصاد ووحدته الأساسية التي تتحكم بمجمل العملية الإنتاجية والاستثمارية. فانتقال مركز الثقل الاقتصادي من الوطني إلى العالمي، من الدولة الى الشركات والمؤسسات والتكتلات هو جوهر العولمة الاقتصادية. أي كما يسميها إسماعيل صبري عبد الله الرأسمالية العالمية في مرحلة ما بعد الإمبريالبة.

لذلك يمكن القول إن العولمة في تجلياتها الاقتصادية هي الرأسمالية في طور حضورها الكوني الذي وظف الثورة العلمية والتكنولوجية والمعلوماتية الجديدة لصالح عملياته. ولا شك أن العولمة بواسطة السوق هي الشكل المتقدم لرسملة العالم أو سلعنته وتحويل أفراده إلى مجرد مستهلكين للسلع والخدمات التي تروج على مستوى العالم.

السؤال الذي يطرح نفسه هل الموجة الشعبوية السائدة في الولايات المتحدة وأوروبا كانتخاب ترامب والبريكست وتصاعد التيارات اليمنية واليسارية المعارضة للعولمة ستوقف مسيرتها. يبدو أن العولمة أفرزت على المستوى العالمي  والمستوى الوطني رابحين وخاسرين. وقد أوضح جوزيف ستغلتز في كتابه المشهور "العولمة واستياؤنا" والذي حاول فيه إيضاح أسباب الغضب في الدول المتقدمة، حيث يعتقد الكثيرون أن النظام تم تزويره لصالح الشركات الكبرى وأن الاتفاقيات التجارية غير عادلة وهي الفكرة التي يتبناها أيضا الكثيرون في العالم النامي. وتبين بعض الدراسات أن المستفيد الأكبر من العولمة بالإضافة إلى أصحاب الشركات العالمية هم العمال والطبقات المتوسطة في آسيا، وذلك لانتقال الكثير من المصانع إليها نظرا لفارق الأجور.

ويوضح بارنكو ميلانفش في مقاله بصحيفة "لموند" الفرنسية ما يسميه بـ"منحنى الفيل"، الذي يبين تزايد دخل الفئات الأعلى دخلا في العالم الصناعي وبقاء أو انخفاض دخل فئات العمال والطبقة المتوسطة في الغرب، هذا إضافة إلى تحسن دخل العمال والفئات المتوسطة في آسيا.

ويشير بانكج شيموات في دارسة له في هارفارد بيزنس ريفيو في عددها ليوليو وأغسطس إلى أنه رغم موجة التشاؤم التي سادت العالم بعد انتصار دونالد ترامب وبرنامجه الحمائي والفوز الذي تم تحقيقه في استفتاء البريكست، فإن المؤشرت لا تشير إلى تراجع العولمة. فمؤشر الترابط لشركةدي إتش إل DHL Connectedness Index) )، الذي يوضح مسار التجارة العالمية، ورأس المال، والمعلوماتية، وتدفق الهجرة، تشير إلى  انخفاض في النمو منذ 2015 غير أنها لم تتراجع والإحصاءات الخاصة لعام  2016 بالنسبة للتجارة والاستثمار تشير إلى أن النمو في تباطؤ دون أي ارتداد في المؤشرات، ورغم الحملة المضادة للعولمة التي تشنها الصحف في الولايات المتحدة وأوروبا، لا يبدو أن القوى اليمينية الصاعدة أو قوى "اليسار الأوروبي المتبرجز"، حسب توصيف ولفنج ستريك يمكنهما إيقاف مسيرة العولمة. كما يضيف شيموات في دراسته المذكورة أن الشركات في الدول المتقدمة ستستمر في استغلال الفوارق في كلفة العمالة والموارد الأخرى في الأسواق الناشئة وستسفيد هذه الدول من البيع في أسواق الدول المتقدمة. ويختتم شيموات دراسته بتقديم عدة توصيات حول كيفية المنافسة في مسار العولمة؛  أولاً: التكيف؛ حيث بالإمكان مضاعفة الإيرادات والأسواق بتكييف المنتجات والخدمات بحيث تلائم الأذواق والاحتياجات المحلية؛ ثانيا: العمل بالإنتاج الموسع أي ما يسمى بوفورات الحجم حيث يتوسع الإنتاج الموجه للأسواق الإقليمية والعالمية. ثالثا: استغلال كلفة الإنتاج بالنسبة للعمالة والمواد الخام وأنظمة الضرائب بين الأسواق المحلية والإقليمية