"المتطوعة الأولى" تحصد أسمى الجوائز تكريما لجهودها

الخالة زهرة.. الأم التي ضخت في المجتمع فن الحياة وحب التضحية

...
...
...

 

الرؤية - خالد أحمد

عندما تردد اسمها.. زهرة بنت سالم العوفية، ضجَّت القاعة بالتصفيق، وقف الجميع احتراما وابتهاجاً، بينما سالت الدموع من العيون، فرحة وتقديراً لما حققته هذه المرأة العُمانية الأصيلة، النموذج الإنساني الراقي، التي أعطتنا جميعاً دروساً قيمة في فن الحياة وحب الخير ومساعدة الآخرين، في العطاء كما يجب أن يكون.

الخالة زهرة..

هكذا يناديها تلاميذها في الحمراء؛ سواء كانوا أطفالاً صغارا أو نساء عجائز، سواء كانوا ممن تلقوا دروسها في حفظ القرآن، أو استقوا منها علوما بسيطة تضعهم على أول طريق المعرفة والنور، أو علمتهم كيف يقيمون شعائر الصلاة.

زهرة العوفية، امرأة معجونة بماء الأصالة وحب الخير، قدت شموخها من جبال عُمان الشاهقة، واستمدت إصرارها وصبرها من صلابة الصخور، كلما اقتربت منها وعرفت بعضاً من سيرتها العطرة، تتسع أمامك أبواب البهجة والحب، ومعاني الحياة في أبهى صورها .

أم لأولاد وبنات، لم تقصر لحظة واحدة في القيام بواجبها، ربت وسهرت الليالي، وكبر الأولاد والبنات، وفي قلب الخالة زهرة طاقة أكبر، وحب أكثر، تود لو توزعه على الدنيا حولها.

بعد أن شعرت بأن لديها قليلا من وقت الفراغ، قررت أن تمد يد العون لمن حولها، تقول دائما -وهي التي لم تكمل تعليمها- إن العلم حق ونور، ولا تريد لأحد أن يكرر تجربتها.

تدخلنا تفاصيل حكاية زهرة العوفية في حيرة بين أن نحتفي بالمرأة العمانية التي حققت إنجازات تستحق كل تقدير واحترام، أو نحتفي بعُمان التي أنجبت ولا تزال هذه النماذج القادرة على إشاعة الحب والرحمة والتسامح أينما حلت.

حتى إن حكايتها لفتت انتباه محطة "إم.بي.سي"، التي حملت كاميراتها، لتسجل عن قرب ما حققته هذه المرأة في مجتمعها، لتستقي منها كيف يجب أن يكون التطوع، وكيف نحب من حولنا، ونساعدهم على أن يكونوا أفضل وأرقى .

كذلك قناة "سي.إن.إن" جاءت لتسجل معها، مبهورة بما تحقق، وقالت إنها مولت بناء ورعاية 12 مدرسة لمحو الأمية بولاية الحمراء من عائد بيع المأكولات والطبخات التي كانت تعدها بالمنزل.

والآن، وعوضا عن استخدام أموالها الشخصية، فإن مشروعها قادر على تمويل عملها بالكامل لتعليم الأطفال في القرى الجبلية المجاورة.

سألها المذيع متعجباً: لماذا تفعلين ذلك؟ 

ردت: لأنني أريد أن يقلدني الجميع، ويحبون العمل التطوعي والتضحية من أجل الآخرين .

 

دروس لكي نحيا

الخالة زهرة ببساطتها ووضوحها، تعطينا دروساً لكي نحيا وننثر حولنا بذور الحياة، ونرويها بماء التضحية وإنكار الذات، والإيثار.

قبل 10 سنوات..

بدأت بتعليم أطفال الحمراء في بيتها، تحفظهم القرآن الكريم وتعلمهم الصلاة وتنير عقولهم بالقليل من العلوم المبسطة، كانت تأخذ من مصروف بيتها لتشتري هدايا للأطفال كي تشجعهم على الاستمرار وحب العلم، جوائز تمنحها لهم فيزدادون تمسكا بها، ويستظلون بالشجرة المورقة التي زرعتها وهي تكبر وتكبر بالتدريج.

ويوما بعد يوم، زاد عدد الأطفال، واتسعت مدرسة الخالة زهرة، بعد أن ذاع صيتها، وزاد عدد تلاميذها عن 100، وبدأت تشعر بأزمة؛ لأنها لم تعد تملك مالاً كافياً لتنفق منه على تلاميذها.

لم تفكر في الاستعانة بأحد ..

امرأة بصلابة وروعة الخالة زهرة لديها الكثير من الحلول، والكثير الكثير من الطاقة الروحية لتنير لها درب التضحيات.

قررت أن تطبخ بعض الوجبات، وتبيعها للمدرسات في المدارس المجاورة، تنهض من نومها قبل الفجر لتستعد وتطبخ وتعد الوجبات، ثم تقوم ببيعها، ومن عائدها تنفق على تلاميذها لتكمل مهمتها المقدسة.

فهل تكتفي زهرة بما تفعل؟

والإجابة:

وهل ينضب البئر من الماء أو يتوقف النهر عن الجريان؟

رغم المشاق التي تواجهها في المدرسة المفتوحة والمطبخ الذي لا يتوقف عن العمل.

توجهت إلى مدرسة الأبرار الحكومية في الحمراء، فقد طلبت منها المديرة أن تذهب لتعليم الأولاد من الصف الأول للرابع الصلاة وتحفظهم القرآن، خاصة وأن أغلبهم من سكان الجبال، ولبت العوفية النداء وذهبت على الفور، كانت تعطي دروسها كل يوم بالمدرسة.

وأدركت أن وجود أطفال لا يعرفون الصلاة ولا يحفظون القرآن سببه المنزل، فقررت الذهاب إلى الأسر في القرى، لتكمل مسيرتها وتنير عقول الكبار بنور القرآن ومعرفة مبادئ العبادات والقراءة والكتابة والعلوم المختلفة.

كانت تذهب لزيارة الأسر في المناطق البعيدة الجبلية بالتعاون مع مديرة المدرسة التي وفرت لها سائقا لتوصيلها، واثنين من المرافقات، وكانت تذهب بشكل يومي للنساء؛ حيث يتجمعن في مكان معين لتلقي الدروس.

نثرت الخالة زهرة في القرى البعيدة بذور العلم، خلقت حالة من الوعي لدى النساء اللائي كُن ينادينها بالخالة زهرة، حتى لو كُن عجائز، تأتي إليهن في الموعد كل يوم، فيتحلَّقن حولها، وتتسع عيونهن، وتنفتح عقولهن لنور العلم.

صار لدى الخالة الرائعة 3 مهمات كل منها أثقل من الأخرى، تنهض فجراً لتطبخ المزيد والمزيد من الوجبات، بعد أن ذاع صيتها، ثم تقوم ببيعها في الصباح، ثم تتوجه إلى واحدة من القرى الجبلية البعيدة في رحلة مرهقة وصعبة لتعلم نساء القرى، وتفتتح المزيد من المدارس بمعاونة أخريات قررن مساعدتها، ثم تعود إلى تلاميذها في بيتها.. وهكذا.

كثفت من العمل أكثر، وأصبحت معروفة في مجال الطبخ، وبعد أن كانت النساء تخجل من الطبخ صار الآن أكثر من 30 امرأة يطبخن ويبعن الوجبات.

أخيراً.. صار لدى زهرة العوفية 12 مدرسة في قرى مختلفة بالمنطقة، يتعلم فيها الصغار والكبار القراءة والكتابة وحفظ القرآن والصلاة، وبعض العلوم والرياضيات.

 

التواضع في أبهى صوره

عندما اقترحت عليها إحدى معارفها (هدى القصابية) أن تتقدم للمشاركة في جائزة السلطان قابوس، قالت إنها لا تعرف كيف، ولم تهتم بالأمر وكانت ترفض.

ولمَّا سألوها: لماذا؟ قالت: "مخافة أن يدخل في قلبي طمع".

إلا أن هدى سجلت اسمها في الجائزة بالفعل، وطلبت منها صوراً من المشروع، من بعض مدارسها القائمة، لكن الخالة زهرة عادت ترفض بإصرار، قالت لمن طلبت منها ذلك: "أنا أخدم خدمة، ولا أريد التباهي والتقاط الصور.. ليس عندي صور". لكن هدى القصابي استطاعت حل المشكلة، واستعانت بصور من مقابلة قناة "إم.بي.سي"، و"سي.إن.إن"، وتم اعتماد الفيديوهات للمشاركة.

 

وتستمر دروس الخالة

قبل فترة بسيطة من إعلان الأسماء، زارها فريق المحكمين من وزارة التنمية الاجتماعية؛ طلبت منهم الانتظار حتى تنتهي من إعداد 600 وجبة كانت مطلوبة منها، وبعد أن فرغت جلست معهم، وأجابت عن أسئلتهم، ثم توجهوا إلى إحدى المدارس التي أنشأتها.

سألوا الفتاة التي تقوم بالتدريس: من يعطيكم هذه الكتب والمواد التعليمية؟ ومن يُنفق على المكان؟ فقالت: خالتي زهرة. وأخذوا معهم نماذج من كتب الرياضيات والعربي.

وأخيراً اتصلوا بها لحضور الحفل، كانت متردِّدة ولا تجد حماسة للحضور؛ رغبة منها في الابتعاد عن الأضواء، لكن أكثر من اتصال جاء بالتشديد على الحضور دفعها للذهاب، وهناك جلست في آخر مكان بقاعة الحفل بعيداً عن الأنظار، وهي لا تدرك أنها صاحبة الجائزة الأولى.. وعندما نادوا على اسمها لم تجد غير دموعها كرد فعل عل فرحتها بالتكريم.

تعليق عبر الفيس بوك