حاتم الطائي
على مَدَى الأيام الأربعة الماضية، لم أَسْتطع قراءة قرار بهذا الحجم من الاستفزاز، أَصْدره رئيسٌ مُستَجد على ساحة الفاعليْن الدوليين، معروفٌ بالتهوُّر والتجرُّؤ، أطلق رَصاصة المَوْت على مُفاوضات سلامٍ ترعاها بلاده لم تُبارح يومًا مَكَانها.. وأعني هنا هذا القرار الترامبي الأخير، الذي لم أستطع قراءته حقيقةً في إطارٍ مُغاير لما جدَّدته مؤخرًا، الذكرى المئوية المشؤومة لـ"وعد بلفور"، الذي مثَّل خطوة أولى لإقامة كيانٍ صهيوني مُتغطرس على تراب فلسطين الأبية.. بَيْد أنَّ الأكثر خطورةً في خُطوة ترامب هذه، أنها تأتي والعالم العربي برمَّته يعاني الوهن، ويواجه مؤامرة هي الأخطر منذ عقود، لتصفية القضية الفلسطينية وتفريغها من أي مَضْمُون، وتحويل ما هو "مُؤقَّت" إلى "دائم"، تبقى بموجبه القدس خارج "لُعبة التفاوض"، ليتحول الصراع العربي-الصهيوني الأزلي، إلى مُجرَّد نزاع حُدودي، يُكرِّس عمليًّا لمؤامرة "الوطن البديل"، الذي يَضْمن للاحتلال أن تكون له دولة مُتماسكة في محيط مُشتعل.
قرار ترامب بنقل سفارة بلاده -التي خلعتْ أخيرًا عن وَجْهِها بُرقع الحياء السياسي والمُداهنات- إلى القدس، لا يعني مجرد مساحة جغرافية جديدة على أرض عربية يتوغل فيها المغتصبون ومن وَالَاهم ودعمهم، أو عملية استبدال يافطة على مبنى القنصلية الأمريكية فى القدس، وتحويلها إلى أخرى باسم سفارة الولايات المتحدة الأمريكية؛ بقدر ما يعني اعترافا أمريكيًّا بشرعية الاحتلال، يمهِّد لتحوُّل القدس تلقائيًّا إلى منطقة خارج إطار التصنيف كـ"منطقة محتلة"؛ في وقت تُمثل فيه رمزية الصُّمود الفلسطيني، ومنطقة بَقَاء تبدو فيها مظاهر الاحتكاك بين أصحاب الأرض والمعتدين بشكل يومي، ولتوجِّه واشنطن بذلك ضربة في مقتل لكل القرارات، وتُخضع الشرعية الدولية والقانون الدولى لصالح الاحتلال.
هذا كله لابد أن يظل معلومًا للجميع ونحن نتحدَّث عن قضيتنا الأولى.. بَيْد أنَّني وفي المقابل، ما زلتُ أتعجب: وماذا كُنا ننتظر من قَنَاعاتِ عربية قائِمَة على ردِّ الفعل وليس صُنعه؟ وهل قرار رئيسٍ -عقيدته "المال أولا"- هو فقط ما جَرَح المشاعر، وتفتَّقت معه الأذهان عن قضية مصيرية بحجم القضية الفلسطينية لتعود للأضواء مجددًا؟ وأيًّا ما كانت دُفوع القرار: سواءً خَوْف ترامب من خسارة قاعدته المسيحية المتطرفة، أو إيمانه بـ"رد الجميل" ورشوة اللوبي الصهيوني الذي دعَّمه في انتخابات كان خاسرًا فيها بامتياز، واليوم هو في أشد الحاجة إليه أكثر ممَّا مضى؛ كونه مُهدَّدا بالعزل بعد سلسة فضائح داخلية وخارجية نالتْ من شعبيته المهزوزة في الشارع الأمريكي بالأساس، فإنني لأضَعُ علامة تعجب جديدة أمام سؤال يتجدد كل فينة: تُرى، هل كان في البال قرار يأتينا من خلف البحار يضمِّد الجراح، ويواسي الفَقْد، ويُحيي التاريخ الذي اغتاله الاحتلال بأيادٍ باردة، ولُوِّثتْ عباءَته بدماء الفلسطينيين؟ لهذا -وفي رأيي- فلم يكن من الصادم أو المفاجئ، أن يَظْهر علينا اليوم، وبين حين وآخر، من يَنْخَر مقدسية القدس، ويخدش حياء عروبتها، ويرسم خارطة جديدة لها!! ليس جديدًا قرار كهذا ممَّن يقوم بسرقة المُنجز التاريخي ويسلب حقوق الشعوب! ومن لديه شك في ذلك، فعليه استعادة سيرة المفاوضات طوال عقود، سواءً قبل كامب ديفيد؛ أو بعدها.
للأسف الشديد، ما يجب علينا الاعتراف به اليوم هو أن ملف عودة وبناء وحفظ القدس ظل سنين طويلة نسياً منسيًّا، بفعل سياسة "الفوضى الخلاقة"، التي تبنتها وأصَّلت لها كونداليزا رايس، بُعيد الغزو العراقي.. وأزيدُ من الشعر بيتًا بأنَّ قرار نقل السفارة الأمريكية مِيْلادُ فكرته أصلاً كانت في التسعينيات، وأن ما جرى الأربعاء الماضي لم يعدُ كونه سوى خطوة رمزية على جُنون العظمة الذي يتملَّك ترامب، المعهود عنه جُرأة اتخاذ قرارات تتعلَّق بمستقبل بلاده والعالم، لا لكونها مبنية على أسس موضوعية تعلل اتخاذها، بل تنفيذاً لوعود انتخابيّة -حتى لو قيلت في لحظة عاطفية- أو لمجرد نقض سياسات اعتمدها رؤساء سابقون.. وما رأيت في قراره الأخير سوى اجتماع هذين السببين معاً.
هذه باختصار العقيدة الأمريكية الثابتة تجاه إسرائيل، وبالتحديد عقيدة الحزب الجمهوري الحاكم، القائمة على الاعتقاد الديني المغلَّف بالقناعة السياسية، والكفاح المشترك، وهي إن تغيرت أدواتها أو وسائل التعبير عنها، فقد ظلت ثابتة في جوهرها.. عقيدة لن تبلغ نهايتها بتاتًا بإعلان القدس عاصمة للاحتلال؛ بل بإعلانه دولة كاملة، في خطوات لاحقة لن تكترث برفض العالم، ما دام الوعد الإلهي يتحقق.. لذا، فمن يقول بأن ترمب لا يعرف خطورة قراره مُخطئ بكل تأكيد، فهو يعرف تمامًا أبعاد وخطورة القرار، وأكاد أجزم بأنه يريد لهذه المخاطر أن تقع؛ بما يخدم هدف تقديم المنطقة كوجه للتطرف والإرهاب.
... إنَّ قرار ترامب الأخير، بوجهه السياسي وخلفيته الدينية، سيحوِّل قواعد اللعبة وهذا هو المقصود، بعد أن فرغت المنطقة أو كادتْ من تنظيم "داعش"، في سَعْي لإنتاج جديدٍ للتطرف الديني بكل اتجاهاته ومنابته وأصوله، ناهيك عن سياسة "فرق تسد"، وتجزئة قضايا الصراع، التي أعطت أكلها للعدو الصهيوني، بإصابة الجسد العربي بالوهن، والعقل العربي بالشلل الدماغي، الذي أصبح كقائد طائرة فَقَد بوصلته نحو مركز قيادته، ما لم نتدارك جميعًا أخطاء الماضي، وينهض كلٌّ منا بمسؤولياته بأمانة وإنصاف تجاه الحق الفلسطيني أولا وأخيراً.
ويبقى أن أقول.. إنَّ الشكَّ لا يُخالجني -كما لا يخالج أي عربي يؤمن بقدسية هذا المكان الشريف- في أنَّ القدس وكنقطة ارتكاز القضية الفلسطينية، ستَهْزمُ كما هَزَمَت على مَدَى قرون كلَّ من استهدف مكانتها وكينونتها، وستهزم قرارات ترامب وغيره كما هزمت غطرسة نتنياهو في معركة البوابات والممرات والكاميرات مؤخرا، وستبقى عاصمة فلسطين الأبدية، ومَهْد الحضارات والديانات السماوية، رغم أنف الجميع، فمَوْت مَسَار المفاوضَات، لن يَسْلِب الحياةَ من قضية العرب الأولى، وإنْ فَتك بها المرضُ لسنوات، فالقدس ستبقى دائمًا بنا ولنا.. فلتحيا القدس عاصمة فلسطين.