بين تجارة ترامب وحجارة القدس

 

 

مسعود الحمداني

جاء ترامب من مدينة التجارة المترفة، إلى عالم السياسة والسلطة، على رأس الهرم الأمريكي الذي يحكم العالم ويتحكم في مصيره وأمصاره، جاء ليغيّر التاريخ و"يشخبط" في معالم خارطة العالم، ويفقأ عين كل من يتجرأ على مُخالفته دون رأفة، ويعقد الصفقات الضخمة، ويُخيف أصدقاءه قبل أعدائه، ويورّط الولايات المتحدة في مشاكل عابرة للقارات، جاء ترامب ليأخذ كل شيء دون أن يدفع أي شيء.. ولذلك هو رئيس لا مثيل له.

ركل ترامب كل شعوب العالم بقسوة دون أن يرف له جفن، بدأ بمشروع السور الفاصل بين بلاده والمكسيك، ثم حظر رعايا دول إسلامية بعينها من دخول الولايات المتحدة، وبعد ذلك صفع العرب والمسلمين دون اكتراث لـ"مشاعرهم الدافئة" وأعلن اعترافه بالقدس عاصمة لإسرائيل، ونيته نقل السفارة الأمركية إليها في القريب العاجل، وعلت أصوات العرب، وستخفت قريبًا، وستنسى القدس كما نسيت قضية فلسطين، وغضت بعض الأنظمة العربية نظرها صاغرة عن "أولى القبلتين"، وصمتت دول أخرى لأنها تعيش على المعونات الأمريكية ولا تريد التفريط بها، فترامب ينظر إلى العرب كمجرد أرقام، وهو يعلم أن في يديه اللجام، وتحت رجليه أوراق اللعبة كاملة.

أدار ترامب العالم كشركة خاصة، لا عواطف تحكمها غير مبدأ الربح والخسارة، وحوّل موظفي هذه الشركة إلى أتباع لا صوت لهم، ولا إرادة، وهدد وتوعّد كل من يُخالف قوانينه بالطرد منها، أو تهمشيه، وعرف كيف يتعامل مع موظفيه الساسة العرب بمقدار مكانتهم، وتقديرهم لذواتهم، وخوفهم على كراسيهم، ولذلك لم يجرؤ حاكم عربي على قول "لا" فترامب يعرف نقاط ضعفهم، وما هو همّهم الأول والأخير، وما هو عقابهم في حالة رفضهم لأي طلب له، فهو يعلم يقيناً أن أوراق الضغط العربية معطلة قصدا ومع سبق الإصرار، فهم لن يسحبوا ملياراتهم من البنوك الأمريكية، ولن يلغوا صفقات الأسلحة، ولن يسحبوا السفراء، ولن يقوموا بغير الصراخ والشجب والاستنكار ثم ستهدأ الأمور كالعادة، وينتهي كل شيء.

أعلن ترامب القدس عاصمة لإسرائيل، لأنه عرف بحسبة بسيطة أن القدس منذ سبعين عامًا وهي تحت الاحتلال الإسرائيلي، ولم يفعل العرب شيئاً ملموسًا لاستردادها، لأنهم يعلمون يقينا أن تحرير فلسطين يضيف مشكلة أخرى لمشاكل الوطن العربي الذي لا يتسع لصداع جديد، وأن "كتلة حجارة" ليست أثمن من دماء آلاف الشهداء الذين سقطوا على تراب فلسطين، لعب ترامب على هذا الوتر السلبي لدى العرب، واستطاع أن يخلق للدول الخليجية بعبعاً خارقاً للعادة هو إيران وأوهمهم أنَّ العدو الإستراتيجي لهم ليس إسرائيل بل هو هذا الجار المذهبي المزعج، لذلك حشد الخليجيون كل قوتهم وعدتهم وعتادهم لمحاربة العدو الأزلي، بينما تركوا خلفهم العدو العابر، وعقدوا الصفقات المليارية من أجل تحييد ترامب، معتقدين أنهم يتعاملون مع تاجر تغريه كم مائة مليار، ونسوا أن التاجر لا دين له ولا ملّة سوى المال، وأنه جشع بطبعه، لذلك أخذ منهم بعض ما يُريد، ورحل، ولكنه ترك خلفه البعبع الإيراني كعصا يلوّح بها متى شاء، ويخوّفهم بها، ويهددهم ويبتزهم، وستستمر الحال على ما هي عليه حتى مجيء رئيس آخر، ولكن ترامب علّم من سيأتي بعده من الرؤساء لعبة "السياسة التجارية" الجديدة، وفتح لهم مغارة علي بابا الخليجية التي ستدر عليهم المجوهرات والمال متى احتاجوا، أو متى تهاوت الخزينة الأمريكية.

ترامب رئيس من نوع خاص، لا يُبالي بتداعيات قراراته، ولا يهتم إلا بشعار "أمريكا أولا"، وليذهب العالم إلى الجحيم، فهذا العالم ـ وخاصة العربي، وخاصة الخليجي ـ يعتبره ترامب عالة على الولايات المتحدة، وأنه لولا "تضحيات" الأمريكان لبقيت شبه الجزيرة العربية مجرد خيام، وأعراب لا مستقبل لهم غير الصحراء الشاسعة، هذه النظرة الدونية للعرب لا يُسئل عنها ترامب ولا العالم، بل يُسئل عنها الساسة الذين لم يفعلوا الكثير ليصنعوا المستقبل لشعوبهم، وكان همهم الوحيد هو كيف يبنون مستقبلهم الشخصي، ولذلك لا تسألوا ترامب عن ضياع القدس، بل اسألوا السبعين عاماً التي مضت والعرب يتفرجون عليها دون أن يتقدموا خطوة للأمام.

Samawat2004@live.com