أيام من عمر مضى (5-5)

 

عــلي بن كفيتـــــان

في مطلع نهار جديد وصل الباص إلى بوابة المدرسة الضخمة، إنها المدرسة السعيدية كانت تبدو في أعيننا مكانا خياليا، مدخل منظم على أطرافه الأشجار والزهور، ومسجد كبير، وملاعب ودورات مياه خارجية، ومبنى ضخم مكون من طابقين مع ملحق آخر في الخلف، أساتذة من جنسيات عربية مختلفة، وعدد هائل من الطلبة، وضجيج لم تعتد عليه أسماعنا في مدارس الريف، كل هذا خلق جوًا من الرهبة والفخر معاً، إنه اليوم الأول في المدرسة الأكثر شهرة في ظفار وبوابة المستقبل لمن أراد الذهاب بعيداً.

دق الجرس الذي نسمعه لأول مره إنه صوت الانضباط تجمع الطلبة في الساحة وصال وجال الأستاذ بهاء الدين بعصاه في الميدان منظماً هذه الحشود حتى استقر كل في مكانه، أخذ المايكرفون أستاذ سوداني وخطب فينا مُرحباً بالجميع في العام الدراسي الجديد علمت لاحقاً أنَّه مدير المدرسة وبعد مراسم الطابور انصرفنا إلى الفصول التي وجدنا أسماءنا على أبوابها وكان حظنا أن نكون في الملحق الخلفي وليس في المبنى الرئيسي خليط من الطلبة من مختلف البشر ومن جنسيات عربية ولم يكن معي في الصف أحد من زملاء الريف ولا من زملاء السكن من مرباط، قذفتني الأمواج للجلوس جنب النافذة القريبة من الباب وفي هذه اللحظات دخل الأستاذ وبدأت مرحلة جديدة من حياتنا إنها المرحلة الثانوية.

في الفسحة بحثنا عن بعضنا عفوياً وبالفعل وجدت محاد ومحمد رفقاء الدرب من زمن الطفولة، ولم يكن لدينا من وسيلة غير الاعتماد على أبي مجدي لكي ينتزع لنا شيئاً نأكله من هذا الحشد الهائل أمام مقصف المدرسة فالرجل ذو بنية جسمانية قوية على خلافي أنا ومحمد، انصرفنا إلى ظل شجرة بالقرب من المسجد وجلسنا على الأرض نتفكر في هذا الصرح الكبير وهذا العدد الكبير من الناس حتى قرع الجرس مجدداً وفي الطريق للفصول تعرف كل منِّا على صف زميله ووجدنا كذلك أصحاب مرباط يجلسون معاً أثناء تلك الاستراحة وأظن أن بعضهم كان متذمراً ولا يرغب في الاستمرار وبالفعل انسحب عدد منهم وأكملوا دراستهم في القسم الأدبي المتاح في مرباط.

ارتفع صوت الحق منادياً لصلاة الظهر من مسجد مدرستنا ومن مختلف جنبات المدينة، ذلك الوقت كان هناك وقت يقدر بربع ساعة استراحة لأداء الصلاة في جماعة وأذكر أن المسجد ممتلئا وأن هناك من صلى في الخارج وفي الصف الأول مدير المدرسة وعدد كبير من المدرسين، والأستاذ بهاء الدين يقوم بدور تجميع المتأخرين عن أداء الصلاة بالعصا ويدخلهم في الجماعة الثانية ويكون في الغالب هو إمامهم، لا يسمح لأحد بالتأخر عن الصلاة، ولا يسمح كذلك بأن تكون الصلاة معطلا لأي دقيقة من الحصة التالية انضباط عجيب تقوده إدارة هذه المدرسة. 

في اليوم الأول استلمنا جميع الكتب بشكل منظم، من مخزن المدرسة الخلفي وبدأنا في دراسة معظم المواد، الجدية هي سيدة الموقف، والمدرس لا يسمح بسماع صوت شيء غير صوته هو وصرير الطباشير على السبورة، والعصا حاضرة أمامه على الطاولة، كنت انصت بكل جوارحي وأحاول استيعاب ما يقول، ولقد بينت المناقشات التي أتاحها الأساتذة أن القادمين من الريف والبادية يتمتعون بصفاء ذهن وحضور علمي مميز وهو ما لم يخفيه جميع المعلمين أثناء مجاملاتهم الظريفة لنا فكان الأستاذ محمود مدرس العربي يقول – الله يرحمه – ((مش عاوز الصعايدة يجاوبوا)).

قضي الأمر في اليوم الدراسي الأول بالمدرسة السعيدية وعدنا أدراجنا إلى السكن الداخلي، وطبخ لنا في ذلك اليوم الإخوة في شقة مرباط كبسة لا تنسى أشرف عليها كل من أحمد ماجد وعبد الله بالخير – حفظهما الله – وكان الدور عند شقتنا في اليوم التالي لكننا بكل المقاييس لم نكن نجيد الطبخ مثلهم، ولكنها كانت تجربة صقلت فينا مهارات الاعتماد على النفس في تلك المرحلة المبكرة وهيأتنا لما هو قادم.

 

alikafetan@gmail.com

الأكثر قراءة