عبيدلي العبيدلي
أثار موضوع "فرصة تاريخية أمام التيار السياسي المدني البحريني" الكثيرَ من الجدل في صفوف الحركة السياسية البحرينية، بل وصل الأمر إلى مداخلات بعث بها بعض الأصدقاء الخليجيين. توزعت تلك المداخلات -والتي تلقيتها بشكل مباشر أو غير مباشر- على أربع فئات رئيسة؛ يمكن تلخيص ما جاء فيها على النحو التالي:
1- فئة من اعتبر المقال مغرقا في تفاؤله، ومن ثم اقترابه من مستوى السذاجة السياسية التي ترفض أن ترى الواقع بعين موضوعية، تستطيع تشخيص واقع هذا التيار الذي لم يعد يستحق -من وجهة نظر هؤلاء- سوى "الشفقة والرثاء". وبالتالي فليس أمامه من طريق آخر -إن هو امتلك الشجاعة الكافية- سوى الوقوف على "رؤوس الأشهاد"، وإعلان إفلاسه الكامل، ومن ثم تنحيه عن مقاعد قيادة أي تيار سياسي، بما في ذلك التيار السياسي المدني. فقيادة هذا التيار "ترهلت"، ولم يعد في وسعها الاستمرار في ترؤس تيار مدني سياسي، قادر على التأسيس لحركة مدنية تمارس دورها الطبيعي في مجرى الأحداث البحرينية.
2- فئة أخرى اعتبرت ما جاء في المقال قاسيا على ذلك التيار، ومطالبة مبطنة غير واضحة بممارسة دور يفوق طاقاته الذاتية التي أنهكتها معاركه الطويلة الأمد التي تعود جذورها إلى عقود من النضال المتواصل، التي تعرضت فيها الحركة الوطنية الديمقراطية البحرينية إلى ضربات قاسية، كادت أن توادها، لولا صلابة مناضليها، وقدرتهم على تحمل عذابات تلك المرحلة، بما شملته من سجون، واعتقالات، وملاحقات، ومنافي. واستطاعت، عندما سمحت لها الظروف التي أوجدها المشروع الإصلاحي أن تطل برأسها من جديد، وأن تحتل الخانة التي تستحقها في مسيرة الإصلاح التي دشنها ذلك المشروع.
3- الفئة الثالثة ذهبت منحى لم يكن متوقعا؛ حيث رأت فيما جاء في المقال من تشخيص، بمثابة الدعوة المبطنة لسحب البساط من تحت أقدام الإسلام السياسي، بمختلف ألوان أطيافه، ومن ثم اشتمت فيه رائحة تفوح منها "الشماتة" في بعض فقراته، والتقزيم في مواقع أخرى منه. واعتبرته في مجمله، حسبما ورد في تعليقاتها، إجحافا لما قدمته تلك التيارات من تضحيات جسام لا تقل في محصلتها النوعية والكمية، ما قدمته الحركة السياسية التي يستمد التيار السياسي المدني البحريني جذروه منها، وينهل من معين أفكارها، وقواها المجتمعية.
4- الفئة الرابعة والأخيرة -كي أكون شموليا، ولا أخفي شيئا- رأت في المقال غزلا مبطنا مع الدولة ومؤسساتها، ومحاولة للتقرب منها، حيث لم يأت المقال على معالجة المسؤولية التاريخية التي تتحملها الدولة، في وصول التيار إلى ما وصل إليه، ولو غيرت الدولة سياساتها أزاء ذلك التيار، لكان الأمر مختلفا تماما، ولكانت الأوضاع مغايرة لما هي عليه الآن، بالنسبة لواقع التيار السياسي المدني. ومن ثم كان الحري بالمقال أن يتوقف، ولو في عجالة أمام ذلك الدور، إن أراد صاحبه بلوغ الشمولية في التغطية، والموضوعية في المعالجة.
ربما يحتاج الأمر إلى مناقشة ما جاء في حديث كل فئة على نحو مستقل، وبشيء من التفصيل. لكن الحيز المتاح أولا، وطبيعة ما ورد في المقال ثانيا، والسرعة التي باتت تسيطر على منهج القراءة في عصر سرعة الاتصالات ثالثا وليس أخيرا، تقتضي الرد في شيء من التلخيص والاقتضاب.
في البدء لا بد من التأكيد على أن المقال حصر نفسه في نطاق ذلك التيار، ومن ثم فهو لم يدع معالجة الواقع السياسي، الأمر الذي يخلي ذمته من ظروف التيار السياسي الإسلامي بمختلف تلاوينه.
ثانيا: أن الظروف الموضوعية لا تزال، رغم صعوباتها وتعقيداتها، مواتية، وفي أسوأ التقديرات "غير منافية"، وينبغي التشديد على وصف "الموضوعية"، التي بحاجة كي تكتمل وتهيئ الساحة لبروز ذلك التيار، توفر الظروف الذاتية له، ونضجها. لم يدع المقال، وربما يستدعي ذلك بعض التكرار بالقول، إن الظروف ليست "وردية" والطريق ليست مفروشة ببساط أحمر. فالمرحلة، وهذا ما أشار له المقال، معقدة، والظروف في غاية الصعوبة، لكن وحدها القيادة التي تستحق ثقة الجماهير، هي تلك القيادة التي تلمح الفرصة السانحة، التي لا تكرر نفسها، من أجل التقاط النفس، وتقدم الصفوف، من خلال برامج وطني، يستجيب لمتطلبات المرحلة، وفي وسعه استقطاب الشارع السياسي من أجل الخروج وراء تلك القيادة وليس عليها.
كما أن المقال لم يدافع عن الدولة ولا سياساتها، فكما قال أبو طالب عندما داهمت جيوش أبرهة البيت الحرام "للبيت رب يحميه"، وبالتالي فللدولة مؤسساتها القادرة على تفسير سياساتها، ومن ثم فهي ليست بحاجة إلى مقال يتيم، أو عمود صحفي متواضع.
أما بخصوص التفاؤل، فهذه صفة لا أنفيها عن المقال، بل إن من ضرورات العمل السياسي المحنك أن تكون قيادته متفائلة، انطلاقا من إيمانها بحتمية التحولات المجتمعية التاريخية نحو الأفضل. لكن ذلك التحول ليس تلقائيا، ولا يمكنه أن يكون عفويا. وهنا يأتي دور تلك القيادة التاريخية القادرة على إحداث التحول من خلال بناء الظروف المناسبة لتشييد ما يعرف باسم "الكتلة التاريخية الحرجة"، القادرة على قلب موازين القوى لما هو مؤهل لإحداث التحولات النوعية الإيجابية في المجتمع.
منطق التاريخ، سوية مع الظروف القائمة، التي لا ينكر أحد، كما جاء في المقال السابق، تعقيداتها، يؤكد أن هناك فرصة تاريخية أمام هذا التيار، إن هو أراد أن تكون آثار بصماته واضحة وإيجابية وباءة فوق صفحة سفر تاريخ البحرين المعاصر.
أما إذا اختار التقوقع، والاختباء وراء أصبعه؛ فالتاريخ لا يرحم، وبالقدر ذاته، لا يساعد من لا يريدون أن يساعدوا أنفسهم.
ليس المقام هنا مقام تقديم نصح أو سرد مواعظ، بقدر ما هو دعوة صادقة تحاول أن توقد شمعة في فضاء يتوهم البعض أن درجة حلكته تحُوْل دون رؤية أي بصيص نور في نهاية النفق.
مرة أخرى.. أمام هذا التيار فرصة تاريخية لن تتكرر، إن هو أضاعها، وبقرار ذاتي، فهو يجرد نفسه من حق تاريخي، ينسف من خلاله مسيرة نضالية تعود جذورها عميقة في تربة العمل السياسي البحريني تتجاوز القرن من الزمان.